مقال شهر ربيع الأول 1439هـ
التفتيش عن المنافقين
الحمد لله تعالى وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده ، نبيِّنا وسيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد .. فإن حجماً كبيراً من الضياع الأخلاقيِّ ، والاجتماعيِّ ، والاقتصادي ، والسياسيِّ ، الذي يُكبِّل المسيرة الحضاريَّة للأمة المسلمة في عصرها الحديث : لا يُعرف له تفسيرٌ واضحٌ بيِّن ، غير أن آثاره المُعيقة للنهضة ، لم تعد خافية على المتأمِّلين في شؤون الأمة الإسلاميَّة العامة ، بل إن حجماً كبيراً من مشاعر الإحباط : قد خيَّم بظلاله القاتمة على قطاعات اجتماعيَّة واسعة ، لا سيما من فئات الشباب الناهض ، الذين غدوا أكثر تشاؤماً وريبة في توقُّعاتهم عن المستقبل ، في ظلِّ الإخفاقات الشعبيَّة الشاملة والمُتلاحقة ، التي أرخت بستورها السوداء على كلِّ أملٍ واعدٍ ، قد كانوا يتطلَّعون إليه مُشْخصين ، ويتغنَّون به فرحين ، فما زالت آمال الشباب تتكسَّر على صخور العوائق ، وأحلامهم تتبدَّد على وقْع الحقائق ، فما يزدادون – على مرور الأيام - إلا يقيناً لاحقاً من اليأس ، على يقين سابقٍ من القنوط .
قد تتابع – كلُّ ذلك - مُتراكِماً على نفوس الشباب الغضَّة الطريَّة ، التي لم تعرُكها الحياة بعد ، ولم تُكابد قسوتها ، ولم تعاين شدَّتها ، التي اعتادها الشيوخ وألفوها ، فهم ما زالوا على أعتاب الحياة ومداخلها ، غير أنهم يدخلونها مُحْبطين مهْزومين ، من سجلِّ تاريخ التراجع والإحباط ، والتخلُّف والقصور والإخفاق ، حتى إنهم من فرط يأْسهم ، وشدَّة قنوطهم : لم يعودوا يثقون في وعود التنمية المستقبليَّة ، ولا في آمالها البرَّاقة ؛ فهم – في هذا العصر بالذات – أذكى من أن تستهْويهم الدعايات الإعلاميَّة ، أو تطمينات الخطط الإستراتيجية ، بل إن الوعد الصادق في ذاته : لم يعد مقبولاً عندهم ؛ لما قد سبق أن استقرَّ في وجدانهم ، ورسخ في عقولهم وأذهانهم ، من سلسلة الإحباطات المُتلاحقة ، التي يصعب معها تقبُّل مزيد من الصدمات النفسيَّة المرهقة ، التي عادة ما تُخلِّف وراءها شخصيَّات مأْزومة مُحْبطة ، وتترك بعدها نفوساً مضْطربة هشَّة ، لا تُطيق مزيداً من الإحباطات والإخفاقات ، ولا تتحمَّل أوضاعاً أخرى من التراجع والتخلُّف ، التي قد تبعث في بعض الشباب المُحْبط : اضطراب سلوكيًّا حادًّا ، ممَّا قد يُهيِّج إلى اضطراب اجتماعيٍّ عامٍّ ، هو أكبر من طاقات المجتمع على استيعاب تداعياته ، وأوسع من قدراته على احتواء آثاره وعواقبه .
لقد غدت نفوس طوائف واسعة من شرائح الشباب المسلم : مريضة كئيبة ، تساورها شكوك المستقبل ، وتداخلها أوهام القادم ؛ فحجم كبير ممَّا يلْحق الشباب المُعاصر من الأمراض النفسيَّة ، وما قد يظهر عليهم من الاضطرابات السلوكيَّة : مردُّ كثير منها إلى جملة هذه المشاعر المُحبَطة في ذاكرتهم القريبة ، وإلى انسداد أفق الأمل في نفوسهم العليلة ، الذي عادة ما يدفع المتأزِّمين نحو أحد الطرفين البعيدين عن الوسط ، ممَّا يُهيئ – في مجموعه - لحمل أجنَّة التطرُّف والغلو ، والاستعداد لولادة الشخصيَّة الإنسانيَّة الرافضة ، التي لا تسمع ولا تُبصر ولا تفهم ، إلا ما تُمْليه عليها هواجس النفس المكلومة ، وما تبثه فيها من مشاعر الغضب والحَنَق ، وما يتبعها من مشاعر الرغبة في الأخذ بالثأر والانتقام ، التي تُعبِّر بنفسها عن حجم أزماتها الشخصيَّة ، وشدَّة آلامها النفسيَّة ؛ فتُفْصِح عن عميق حزنها ونكدها ، وتُعلن عن عظيم ضجرها وغيظها ، من واقع يائس بائس ، لا يرحم ضعف الإنسان ، ولا يُلبِّي ضروراته فضلاً عن حاجاته ، وإنما يخوض به دروب الأوهام ، ويلفُّه بأستار الظلام ؛ ليبقى حبيس الآمال الزائفة ، والوعود المُتكرِّرة الكاذبة ، يتصبَّر بهذه ، ويتأمَّل بتلك ، فما بلغ هذه ولا تلك ، فلا يُفيق المسكين لنفسه إلا على نهاية مطاف الزمان ، وآخر أوقات العمر ، فلا هو أنجز شيئاً يُقابل كدِّه الطويل ، ولا هو أنكر ظلماً يُكتب في سجلِّه الهزيل ، وإنما هو كومٌ من هباء خفيف ، وجلدٌ على عظم رقيق ، قد أنهكه زمان البؤس والشقاء ، وأضناه همُّ الليل وعناء النهار .
في هذا الخضمِّ من زمان البُئْس ، وفي آثاره الكئيبة والحزينة : تغيب عن ضحايا المجتمع أسئلة مشروعة مُهمَّة ، بل أسئلة ضروريَّةٌ ومصيريَّةٌ مفْروضة ، لا تتحمَّل التأخير ، ولا تُطيق التأجيل : عن أسباب هذا النكد الطويل ، وعمَّن كان - وما زال - لهم مصالح من طول أمد هذا العذاب ، ممَّن يتأكَّلون بدوام بقائه ، فيجتهدون في سَقْيه وإرْوائه ، لتبقى لهم مواردهم الحرام ، من شقاء التُّعساء ونكدهم ، ممَّن يلْتقطون لُقَم قوتهم معجونة بعرقهم ، وربَّما يلْتقطها بعضهم ممزوجة بصديد جراحهم ، فهم كائنات بائسةٌ قاصرة ، لا تستطْعم ولا تتذوَّق ، قد استوى في حسِّهم كلُّ شيءٍ ، فلا تُميِّز بين حُلوٍ ومُرٍّ ، ولا بين طيِّب وخبيث ، وإنما هي أجرامٌ تُسمَّى طعاماً ، يقذفونها مضطرِّين في بطونهم من أجل الهضم ، لا تُسمن ولا تُغني من جوع ، وإنما تتلهَّى بها الأمعاء الخاوية أزمنة معدودة ، لتبلغ بأصحابها آجالهم المعلومة ، فتُسْلِمهم إلى مصارعهم المضروبة ، ليبلغوا قدرهم المحتوم ، وبه تكون لهم نهاية زمن التعاسة والأنكاد : ( يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ، يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (43/68-71) ، فإذا صحَّت الخاتمة على هذا النحو من القبول الإلهي ، والحفاوة الكريمة الربَّانيَّة : فما ضرَّ البائس زمان البؤس ، ولا ضرَّ المُعدم طول العوز ، ولا ضرَّ المضطَهد ألم الظلم ، فما هي إلا غمْسةٌ واحدةٌ في رحمة الله تعالى ، حتى يُمحى بها سابق الآلام والأحزان والمظالم ، فلا تبقى من آثارها إلا تبعاتها على المجرمين : ( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ ) (55/41) ، فهي أخذةٌ عادلةٌ لا بدَّ منها ؛ لحقِّ الله تعالى أولاً ، ثم لحقِّ المظلومين والمُضطَّهدين والمحرومين ثانياً .
ولهذا فإن من حقِّ المظلومين أن يعرفوا خصومهم الألداء من الفئة المجرمة ، من مستترين وظاهرين ، وغائبين وحاضرين ؛ ليقفوا على أسباب نكدهم ، ويفهموا أسباب طول بؤْسهم ، فيشْفوا شيئاً من غليل صدورهم ، ويُنفِّسوا بعضاً من مخزون نفوسهم ، فمن انكشف من المُجرمين : انتقموا منه ، ومن استتر : كمنوا له ، ومن فاتهم بنفسه القبيحة فموعده القيامة : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ) (68/42) ، حينها ينكشف حال من كان في الدنيا مستتراً بدعوى الإيمان ، مُتعوِّذاً بشيء من شعائر الإسلام ، فإذا هو ليس من الإيمان ولا الإسلام في شيء ، قد بان المكنون ، وظهر المدفون ، إنهم المنافقون المُخادعون ، قد استتروا بكيدهم وراء مآسي المسلمين ، وتحصَّنوا بضلالهم في خنادق الكافرين ، يَظْهرون إذا ضعُف الإيمان ، ويغيبون إذا ظهر الإسلام ؛ كحال سلوك اليرابيع الليليَّة ، تكْمن في نور النهار ، وتظهر في ظلام الليل ، فلا يُناسبها الانكشاف للعيان .
إن أزمات المسلمين المُتلاحقة ، وإخفاقاتهم المُتكرِّرة ، وخُطواتهم المُضطَّربة : يكمن وراءها المنافقون وطوائف من المُنتفعين والمُغفَّلين ، فأينما تعثر المسلمون في مسيرهم ، وحيثما وقعوا وعطبوا ، وكيفما تنازعوا وافترقوا : فعليهم أن يُفتِّشوا دوماً عن المنافقين من وراء أزماتهم ؛ فإن أفحش رجل في المسلمين ، وأفسق واحد فيهم : لا يُسعده ذلُّ المسلمين ، ولا يرتضي نصر الكافرين ، فضلاً عن أن يسعى في كيد أمته ، أو أن يدلَّ على عورة جماعته ، وإنما يتلبَّس بالفواحش العقديَّة الكبرى ، والمكائد الباطنيَّة العظمى : من لم يبقَ معه أصل الإسلام ، فضلاً عن أن يبقى معه شيءٌ من الإيمان ، ممَّن بلغ بهم التماهيَ مع الكافرين مبلغاً لا مزيد عليه ، مع تاريخٍ أسود طويلٍ من الدسائس السياسيَّة المُخزية ، وقائمة عريضة من الجرائم الفاشيَّة المؤلمة ، فهم هناك دائماً مع كلِّ عدوٍّ للإسلام والمسلمين ، يحضرون بلا دعوة ولا طلب ؛ لأنها مُهمَّتهم الأولى في الحياة بلا نزاع ، تماماً كمهمَّة الشياطين في الغواية والضلال .
ولهذا يُخطئ من يظنُّ : أن النفاق حِقْبة تاريخيَّة ماضية ، أُبتليَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرحلة المدنيَّة ، ثم انقرضت من بعده وتلاشت ، فهذا الظنُّ - إن لم يكن هو النفاق في ذاته - فأقلُّ ما فيه : خفَّة العقل وسوء الرأي ، وربَّما تضمَّن أيضاً الاستخفاف بهذا الحشد من الآيات القرآنيَّة ، والأحاديث الصحيحة النبويَّة ، في أخبار النفاق والمنافقين ، فما الغرض من حديثٍ تاريخيٍّ لا يخدم واقع المسلمين التربويَّ ؟ ثم كيف تم للأجيال اللاحقة اجتثاث النفاق من جذوره ، في الوقت الذي تُوفيَّ فيه المربي الأعظم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يتمكَّن من القضاء على النفاق ؟ فهل ظفر المُتأخِّرون بهديٍ - لإصلاح المنافقين - لم يعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أم أن عمى الألوان قد بلغ مبلغه من عيون المُغفَّلين ؟ حتى إن دعاوى المنافقين ودعاياتهم ، قد وجدت لها رواجاً عندهم ، إلى أن ظنَّ المُغفَّلون بأنفسهم من الخير ، ما لم يظنُّه الصحابة – رضي الله عنهم – بأنفسهم ؛ فما كان منهم أحدٌ يأمن النفاق على نفسه ، فضلاً عن أن يأمنه على غيره ، فقول اللطيف الخبير : ( وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ) (29/11) أمرٌ عامٌّ في كلٍ الأجيال المسلمة ، يبتليهم الله تعالى في دعواهم ليختبرهم في صدق إيمانهم ، وصحَّة إسلامهم ، فمنهم المؤمن ومنهم المنافق ، ومن زعم أن جيلاً من المسلمين خلُص كلُّه من النفاق - فهو إن لم يكن مُغفَّلاً مُسْتخَفًّا – فهو لا يعدو أن يكون منافقاً خالصاً ، يدفع التهمة عن نفسه .
إن المماحكة المملَّة حول انقراض المنافقين ، والجدل حول نجاعة قرار التفتيش وراءهم : لا يخدم حلَّ أزمات المسلمين ، بقدر ما تُؤجِّل حلَّها إلى ما بعد الإفاقة من الغفلة ، ومن ثمَّ اتخاذ قرار الحذر والحيْطة منهم ، كما أمر الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ...) (3/118) ، فكيف للعاملين على الإصلاح أن يتجنَّبوا في مسيرهم دعاة الخبال ؟ الذين انبعثوا في كلِّ مكان : يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون ، ومع ذلك يدَّعون : (...إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) (2/11) ، فكيف للمُصلحين أن يُميِّزوا بين من يُريد لهم العنت ، وبين من يُريد لهم الفلاح ، وهم يعتقدون الخير في الفئتين ، وقد عاتب الله تعالى المؤمنين الأوائل ، حين اختلفوا في تقويم المنافقين ، فلم يكن لهم رأيٌ واحدٌ فيهم ، كما قال عزَّ وجلَّ : ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ) (4/88) ، فقضى - العليم الحكيم - فيهم بالضلال والارتكاس ، فمن ذا يظنُّ فيهم خيراً بعد أن قضى الله تعالى فيهم قضاءه ؟! فلا يقول أحدٌ بغير قول الله تعالى : إلا مغفَّلٌ ساذج ، أو منافق ماكر .
ولا يفهم الفطن أن دعوى التفتيش عن المنافقين : تبحث في تعيينهم بأشخاصهم ، أو إصدار الحكم فيهم ، فهذا لا طائل وراءه ، ولا فائدة منه ، ما داموا مستترين بدعوى الإيمان ، وإنما الغرض تجنُّب فِخاخِهم التي ينْصبونها ، والإعراض عن آرائهم التي يقولونها ، والحذر من نصائحهم التي يُقدِّمونها ، فهذا هو أمر الله تعالى لنبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم : ( وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ) (33/48) ، فمن تُراه يستغني عن هذه النصيحة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فضلاً عن أن يرى أنه ليس بملْزمٍ بها ؟!