صورة المرأة في المناهج الدراسيَّة

مقال شهر رمضان 1438هـ

صورة المرأة في المناهج الدراسيَّة

     

          الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد .. فإن من محاسن الشرع الحنيف : أن الرسالة الخاتمة ، التي انقطع بعدها الوحي المبارك عن أهل الأرض : جاءت كاملة مكمَّلة ، شاملة مستوعبة ، متطوِّرة متجدِّدة ؛ بحيث تواكب مستجدات الناس ، وحاجاتهم المتنوِّعة، في كلِّ زمان ومكان ، فيجد المجتهدون - حين يستفتون الشريعة - أجوبتهم عما يستجد لهم من قضايا علمية وفقهية ، مما يفتقر إلى نظرات المجتهدين واستنباطاتهم ، وهذا دائمٌ مستطرد من فعل الشريعة ، فلن يأتي يومٌ على المسلمين : يعجزون فيه جميعاً عن معرفة الحكم الشرعي ، في أيِّة قضية تظهر لهم ، من مستجدات تفاعلاتهم الحياتية : العلميَّة والعمليَّة ، ما داموا يرجعون - في كلِّ ذلك - إلى شريعتهم المباركة ، مستفتين ومتتلْمذين .  

         ورغم ما استجدَّ في العصر الحديث من القضايا الكثيرة ، والمشكلات الإنسانيَّة العويصة ، لا سيما المتعلِّقة بالاتصالات والمواصلات ، وتقنية المعلومات ، ومسائل الاقتصاد ، والعلاقات الدوليَّة ، والنزاعات السياسية والعسكريَّة ، وقضايا الغلو والتطرف ، وما يُقابلها من قضايا الفساد والإفساد ، ونحو ذلك مما هو كثير وواسع : فما زالت الشريعة – كما كانت - تُجيب عن كلِّ ذلك ، بلا حرج ولا قصور ، فإن وُجد تباطؤٌ ، أو قصورٌ عند بعض مجْتهدي العصر في الاستنباط الشرعي ، لبعض الوقائع المستجدَّة : فهذا لا يرجع إلى الشرع العظيم ، وإنما يرجع إلى قدرات المجتهد ومهاراته ، وقبل كلِّ ذلك يرجع إلى ما يُقدِّره الله تعالى للعالِم من التوفيق والتسديد ، للاستخراج الفقهي الأصوب ، والاستنباط العلمي الأكمل ، فلا لوم في ذلك على الشرع ، فنصوصه المباركة غير مُتناهية العطاء .

         ولعل من أبلغ الأمثلة في هذا المجال : ما يتعلَّق بقضايا ومسائل فتاوى المرأة ، أو ما يُسمَّى : ( فقه المرأة ) ، فرغم ما حظيت به النساء من الوحيين - الكتاب والسنة - من العناية التامَّة ، والرعاية الربَّانيَّة الخاصَّة ، والرحمة النبويَّة الحانية ، وما أبدعه علماء الأمة من المجتهدين الأوائل حول قضاياها المختلفة ، فما زال الواقع الحديث يتعثر في كثير من مسائل المرأة الفقهية ؛ بين مانع بإغلاق ، وبين مُنفلت بإفراط ، والشرع قطعاً ودائماً هو وسط بين المذمَّتين ، غير أن كُلاً من الفريقين يدَّعي لنفسه الوسط ، ويدفع عنها الإفراط والتفريط .

         وبلاد الحرمين الشريفين ، معقل الإسلام وملاذه الأول والأعظم ، فهي أوْلى البلاد الإسلامية للتعبير عن الوجهة الدينية الصحيحة ، والالتزام بقضايا الشرع الحنيف ، في كلِّ مناحي الحياة الإنسانية المختلفة ، خاصَّة فيما يتعلَّق بالمستجدات الحديثة ، في قضايا المرأة المسلمة وشؤونها الخاصَّة والعامة ، لا سيما في هذا الزمان ، فإن ما يُمارس في حقِّها في عالم اليوم ، في كثير من بقاع العالم المعاصر ؛ من الظلم والاضطهاد ، والخسف والاستغلال ، والفتك والتدمير : شيءٌ مهول ، يُخرس أدعياء تحريرها المُبطلين ، ويُلْجم أفواههم بالحقائق المؤلمة ، والوقائع الآثمة المستمرة ، ونظرة واحدة إلى المرأة السورية ، أو العراقية ، أو اليمنية ، أو البورمية : تقطع كلَّ دعاوى حقوق المرأة ، وتفضح أكاذيبهم وحكاياتهم ، فقد أيقنت شعوب العالم المعاصر : أن حقوق المرأة نداءات جوفاء ، لا تعدو حدَّ الاستهلاك الإعلامي ، والدعاية الصحفيَّة الرخيصة ، ولا تتجاوز – في جملتها - إطارات التنميق والتزويق ، الذي تتطلبه دبابيج مُفْتتحات وثائق الأمم المتحدة ، ومنظماتها الدوليَّة المُتهالكة ، التي لم يعد لها دورٌ فاعلٌ تقدِّمه للإنسانيَّة بعامَّة ، والمرأة بصورة خاصَّة ، إلا أن يكون التسويغ الرسميُّ للانتهاكات البشعة ، والمظالم المُجْحفة ، بحقوق الضعفاء والمُضْطهدين ، في عالم الغابة الدوليَّة المُوحشة ، التي لا ترحم الضعفاء ، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من انتهاك حقِّ الضعفاء والمساكين بعامَّة ، فقال : ( إن الله لا يقدِّس أمة ، لا يأخذ الضعيف حقَّه من القوي ، وهو غير مُتعتع ) ، وقال في حقِّ اليتيم والمرأة بخاصَّة ، مُؤثماً الظلمة : ( اللهم أني أحرِّج حقَّ الضعيفين : اليتيم والمرأة ) .

           وفي هذا الخضم العظيم من مآسي المرأة المسلمة المعاصرة ، وفي هذا المعترك المؤلم من واقع الأمة المُتردِّي : تُطرح للنقاش المستَهلك - في مجلس الشورى - قضية صورة المرأة في المقررات الدراسية ، ضمن المناهج التعليميَّة في بلاد الحرمين الشريفين ، بعد أن نجح تعليم المرأة في المملكة بكلِّ المقاييس ، وبلغ أعلى مستوياته العلميَّة ، دون التعرُّض لمثل هذه المسائل المثيرة ، التي تُضعف اللحمة الوطنيَّة ، وتثير النزاع الاجتماعي ، في وقتٍ البلاد فيها أحوج ما تكون إلى الألفة والاجتماع .

          ثم يأتي هذا الطرح للنقاش : بعد أن اقتحمت أجساد غالب نساء العالم كلَّ صعب وذلول ، من مرافق الحياة وأنشطتها المختلفة بلا استثناء ، فضلاً عن صورهنَّ التي عجَّت بها زوايا الدنيا بأجمعها ، حتى ما عاد للمرأة - فضلاً عن صورتها – حُرمة يقف عندها التجَّار المروِّجون ، والفُجَّار المُتجرِّئون ، حتى غدت أجساد النساء : مطيَّة المُستهلِك إلى المُنتجات التجاريَّة ، ثم لم يبقَ - بعد كلِّ هذا العجِّ - إلا مناهجنا الدراسيَّة ، التي تفتقر إلى صور النساء المشاركات في التنمية !! باعتبار أن تقصُّد هذا الإغفال لصورهنَّ : سلوك مشين في حقِّهنَّ الاجتماعي ؛ لكونهنَّ مُقاسماتٌ للرجال في الجهود التنمويَّة ، فالحجَّة تكمن في عضويَّة المرأة ضمن قطاعات القوى العاملة ، فمن كان عضواً مُشْتغلاً بشيء من الأنشطة الاقتصاديَّة العامة ، فلا يجوز إغفال دوره على أيِّ نحوٍ كان ، ولو كان ذلك في مجرَّد حرمان المرأة من البروز بصورتها في المناهج الدراسية ، مُناصِفةً الرجلَ في حجم تكرار حُضورها الفوتوغرافي ، سواءً بسواء .   

         وبناءً على هذا المنطق في اعتبار الحقوق على هذا النحو ؛ فإن ما يُراد دفعه من الظلم عن المرأة بالصور ، لمجرَّد كونها مشاركة في التنمية ، فهو عين ما يجب دفعه عن طبقات العمَّال الوافدين ، الذين قامت التنمية على أكتافهم منذ عقود ، وما تزال قطاعات كاملة في دول الخليج تزْخر بهم ، فهم عناصر تنمويَّة أصيلة ، ومع ذلك لا يُشار إليهم في المناهج الدراسيَّة من قريب ولا من بعيد ، ولا يجدون من ينافح عنهم في ذلك ، بل تَوجُّه السياسات الاقتصاديَّة يسير ضدَّهم ، ضمن خطط توطين الوظائف العُمَّاليَّة .

          ولا يصحَّ رفض اعتبار ذلك حقًّا منطقيًّا للوافدين ؛ لتقاضيهم أجوراً على مشاركتهم في جهود التنمية ، فالنساء المواطنات المشاركات في التنمية : يتقاضين أجوراً أيضاً على جهودهنَّ ، سواءً بسواء ، وحجَّة تحويل الوافدين أكثر أموالهم خارج البلاد ، فهذا مع كونه حقًّا مشروعاً لهم بالدرجة الأولى ، وواجباً شرعيًّا عليهم ، تجاه من خلَّفوهم وراءهم في بلادهم من النساء والذرِّية ، وكونهم مُرحَّلين إلى أوطانهم في نهاية المطاف ؛ فإن المعيب على كثير من المواطنين أبلغ في تحويلهم - مُخْتارين - مبالغ ماليَّة طائلة نحو دول أجنبية ؛ لمجرَّد المتْعة الصيفيَّة ، لا تقلُّ في حجمها عن تحويلات الوافدين ، فضلاً عن الاستثمارات التجاريَّة والصناعيَّة ، التي يعقدونها ويُقيمونها خارج بلادهم الأصلية ، وليتأمل – من له بصيرةٌ – في فرْحة الرئيس الأمريكي المُنتخب لعام 2017م : دونالد ترامب ، وهو يُبشِّر شعبه – بملء فيه - بوظائف جديدة كثيرة ، بعد إبرامه عقوداً اقتصاديَّة فلكيَّة الأرقام ، مع بعض دول الخليج العربية ، فلا عيب على من يسعى لمصلحة نفسه ، وإنما العيب - كلُّ العيب - على من لا يسعى لمصلحة نفسه .

          ومن هنا ، فالأولى بالحريصين على حقوق المرأة : تجنُّب استخدام هذه الحجَّة لتسويغ إبراز صورهنَّ في المقرَّرات الدراسيَّة ، فإعطاء المرأة حقوقها لا يكون بنشر صورها الفوتوغرافيَّة ، وإنما بإعمال ما قرَّرته الشريعة المباركة ، في نصوص الوحي المقدَّس ، التي وضعت أعضاء المجتمع جميعاً في منازلهم اللائقة بهم ، فأية منزلة تُراها ألْيق بالمرأة المسلمة ، حين يُشير صاحب الرسالة – عليه الصلاة والسلام – للرجال جميعاً ، ويُلفِت اهتمامهم إلى موضع الجنة عند أقدام أمَّهاتهم ؟ في مقابل من ينافح لوضع صورتها على أوراق كتب مدرسيَّة ، مصيرها معلومٌ في نهاية العام الدراسي .

          وعلى الرغم من كثرة الدراسات العلمية الميدانيَّة ؛ العربيَّة منها والعالمية ، التي اهتمَّت بصورة المرأة في وسائل الإعلام ، والأخرى التي اهتمَّت بصورهن في المناهج والمُقرَّرات الدراسية بوجه عام ؛ فإنها تكاد تُجْمع - في غالبها - على تخلُّف حضورهن من جهة العدد والتكرار ، وتخلُّفهنَّ أيضاً من جهة الحضور الإيجابي ، ضمن مواقف تشريف مرْموقة ، تُبرز مكانة المرأة في صدر التفاعلات الاقتصاديَّة والتنمويَّة .

           وهذه النتيجة العلميَّة هي انعكاسٌ طبيعيٌ – غير مقصود - للواقع الاقتصادي العالمي ، الذي حصر – غالب – مناشط المرأة الاقتصادية ، ومشاركتها في القوى العاملة : ضمن القطاعات الخدميَّة ، التي تشبَّعت بأعدادهنَّ المُتكدِّسة ، ضمن وظائف مُتدنية لا بريق لها ، مما يزهد في شَغْلها الرجال ، ما لم يكن بعضهم مضطَّراً إليها .

        ولئن كان لكلِّ قضية من قضايا المرأة أنصارٌ ينادون بها في المجتمع ؛ كهذه المسألة ، فإن مسألة تصوير الأحياء ، مما لا ظِلَّ له : قد قال بها جمهور فقهاء العصر ، لا سيما عند قيام الحاجة إلى التوثيق ، ومع ذلك ليست صورة المرأة كصورة الرجل ، فلا يجعلُهما في حكم تشريعيٍّ واحد ، إلا من استرخص حسَّه الفطري ، وعطَّل نظره العقلي ، ممن فقدوا مشاعرهم الطبيعيَّة ، فلم يعودوا يُميِّزون بين أجساد الرجال وأجساد النساء ، فهذه مسألة لا تحتاج إلى بيان ، ولولا هذا الفارق البيِّن بين الجنسين : ما طُرحت المسألة أصلاً للنقاش والحوار .

        والمُراجع لفتاوى العصر : يجد عناية العلماء بالترخيص الشرعي ، لكلِّ ما يفتقر إليه الناس ، من مسائل التشريح ، والتجسيم ، فضلاً عن التصوير ، غير أن كلَّ ذلك مقيَّد عندهم بقيود الشرع وضوابطه ، وليس هو موكولٌ إلى أهواء الناس وميولهم ، وما يُقدِّرونه بعواطفهم ومشاعرهم ، خارج أصول وضوابط الاستنباط الفقهي .

        ولعلَّ في ذكر بعض هذه الضوابط والقيود الشرعيَّة : ما يُجلِّي هذه القضية المطروحة للتداول والنقاش ، ويُسهم – بإذن الله تعالى – في تسديد الرأي ، وبلوغ الصواب :

  1. 1.   عورة المرأة أوسع ساحة في الشرع من عورة الرجل .
  2. 2.   عناية الشرع بستر عورات النساء أعظم من عنايته بستر عورات الرجال .
  3. 3.   الخلاف الفقهي في إبداء وجه المرأة للأجنبي : لا يجعل حكم النظر إليه كحكم النظر إلى وجه الرجل ؛ بحيث تُنصب صورة المرأة منْظرةً للجميع ، لا سيما صور المُستحسنات منهنَّ .
  4. 4.   إظهار شيء من صور جسد المرأة : مقيَّد بحجم الحاجة الشرعيَّة إلى ذلك ، فالرخصة التعليميَّة في هذا تُقدَّر بقدرها ، وتزول بزوالها .
  5. 5.   ما أمكن التعبير عنه من جسد المرأة بغير الصورة الحقيقية : تعيَّن الذهاب إليه ، إذا تحقَّق به المقصود التعليمي .
  6. 6.   يمكن لمجموع الرسوم : الرمزيَّة ، والتشكيليَّة ، والكرتونيَّة ، أن تقوم مقام الصورة الحقيقية للمرأة ، في الأداء التعليميِّ المطلوب .

           هذا من الوجهة الشرعيَّة للمسألة ، أما من وجهتها التربويَّة ، في التعامل التعليميِّ الأمثل مع عقليَّة الطفل ؛ فإن مراعاة التعبير باللَّفظ أنضج لعقل الطفل وأفضل من التعبير بمطْلق الصورة ؛ لأن اللفظ اللغوي أبلغ في تشغيل دماغ الطفل ، وأنفع في إثارة خياله ، في حين أن الصورة - بالفعل - تختصر الوقت المُخصَّص لتقديم الفكرة التعليميَّة ، ولكنها – مع ذلك – تُعطِّل جزءاً مُهمًّا من نشاط الطفل العقلي ، الذي يعتمد على المعاني التعبيريَّة ، وقائمة المُفردات اللغوية ، التي تعمل – بمجموعهما – على إثراء حصيلته اللغويَّة النامية بمفردات جديدة من جهة ، وفتْق ذهنه بالمعاني التعبيريَّة من جهة أخرى ، وما زالت اللغة أداة الإنسان الأولى والأهم في بناء عقله ، ونضج فكره ، وتنمية ذكائه .

         ولهذا ينتفع الطفل بالدمية البدائية الصنع ، الناقصة المعالم والملامح ، وباللَّعبة السهلة الساذجة : أكثر من انتفاعه بالدمية فائقة التصنيع ، وما يلحق بها من الألعاب الصناعيَّة المُتْقنة ، ذاتية الحركة والتشغيل ، مما لا يكون للطفل معها دور إيجابي في أدائها والتفاعل معها ، في حين أنه يَبْعث خياله ، ويُعْمل ذهنه ، ويُحرِّك بدنه : مع الألعاب الساذجة اليسيرة ، فيُكمل بخياله نقصها الشكلي ، ويُتمُّ بيديه قصورها الحركي .   

          وكلُّ متأمِّل في سلوك الأطفال الصغار : يجدهم - في الغالب – يرفضون السلبيَّة في تناول الألعاب الصناعيَّة - ذاتيَّة الأداء والحركة - من نوع ما : يرقص ، أو يُغنِّي ، أو يجري ، ولهذا قلَّما تستهويهم هذه الألعاب لمدَّة طويلة ، فغالباً ما يتناولها أحدهم بالفتْك والتحْطيم ، في حين تبقى لهم مُتعة الألعاب الساذجة مدَّة أطول ، مع ما تخْلُفه عليهم من الإيجابيَّة العقليَّة ، ولعل هذه الإيجابيَّة الفريدة وراء الإذن الشرعيِّ ، في الترخيص للأطفال بمثل هذه الألعاب .     

          وبناء عليه : يُستحسن – تربويًّا - أن يبقى مطْلق استخدام الصور ضمن نطاق الحاجة التعليميَّة التي لا بدَّ منها ، ولا يُتجاوز بها حدود الرخصة الشرعيَّة بضوابطها ، فضلاً عن أن تكون الصور موضع متعة وتفرُّج ، لما أمر الله تعالى بستره وحفظه من العورات بعامة ، وعورات النساء بخاصَّة .