مقال شهر ربيع الثاني 1438هــ
القواطع الحسان في الفروق الفطرية بين الإنسان والحيوان
الحمد لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيِّد الناس ، نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. فإن بعض النظريات الفلسفيَّة ترى أن الفارق بين عالمي الإنسان والحيوان ، وطبيعة العلاقات الاجتماعيَّة التي تميِّز بينهما : ليست كبيرة ، بدرجة تُوحي بالانفصال التام ، بين الأصل الفطْري للعالَـمَين الإنْسي والحيواني ، فالفارق - في نظرهم – في الدرجة فقط ، وليس في الأصل الفطْري ، الذي يجمع بينهما في جذر أصل واحد .
وعلى الرغم من أن الأديان السماويَّة ، التي ينتمي إليها أدعياء هذا الاتجاه الفكْري ، تعتقد باختلاف أصْلي الإنسان والحيوان ، ومع ذلك تجد هذه الأفكار المتطرِّفة رواجاً في بعض الأوساط العلميَّة ، باعتبارها نظريَّة جديرة بالاحترام .
وبتجاوز الردود العلميَّة الحديثة على هذه النظريَّة ، بما أثبته العلم الحديث في إبْطالها ، من خلال تقنياته العلميَّة المتطوِّرة ، فيما يتعلَّق بالدراسات الجينية في علم الوراثة ، فضلاً عن إخفاق محاولات الربط الأُحْفوري ، بين الآثار المتحجِّرة للإنسان القديم ، وبين سلالات أنواع من القردة : فإن المحاكمات العقليَّة ، والمشاهدات الحسيَّة ، والحقائق التاريخيَّة ، كلُّها تجتمع مجْهزة على هذه النظريًّة من أساسها ، فلا يحتاج العاقل الفطن إلى كثير اسْتدلال لدحْضها ، فضْلاً عن حاجته إلى معامل مخْبريَّة حديثة ، تُبرْهن له على كذبها على الحقيقة الفطريَّة ، وحيْدتها عن جادة الصواب العلمي .
ولهذا لا يتكلَّف المتأمِّل كثيراً في نظرته إلى طبيعة التجمُّع البشري ؛ بأبعاده الإنسانيَّة المتعدِّدة ، وألْوانه السلوكيَّة المتجدِّدة ، واختياراته العقليَّة المتطوِّرة ، وإلى طبيعة التجمُّع الحيواني ، في تنوُّعه وتعدُّده وانْتشاره ، وفي رتابته وصرامته وتكراره ، فلا يحتاج – أمام هذه الحقائق المحْسوسة المشاهدة – إلى أن يتردَّد في وصف الأشياء بأوصافها الواقعيَّة ، التي تُغالب أوهام العقول الخربة ، وتبدِّد ظلمات النفوس الموحشة ، التي تحاول جاهدة اسْتبعاد معْطيات الدين عن معْترك الحياة الإنسانيَّة ، باعْتقاد أن قدرة الإنسان العقليَّة في غنىً عن الاهتداء بالوحي المنزَّل ، مع غفْلة مطْبقة معْتمة ، بل تغافلٍ فاضح مشين ، عن الحقيقة الربَّانيَّة القائمة ، التي خلقت الإنسان وعقْله ، وأنزلت الوحي وأمْره ، فكلاهما – الإنسان والوحي – ينْتميان إلى مصْدر واحد ، فخالق الإنسان بكلِّ قدْراته ومواهبه ، هو ذاته – سبحانه تعالى – مُنْزل الوحي ، بكلِّ مضامينه وأخْباره ، فالفصْل بينهما يُفْضي – ولا بدَّ - إلى تعطيل حقِّ الإله في الأمر والنهي ، وأقبح من هذا حين يُؤدِّي إلى إبْطال الربوبيَّة ، ولهذا غالباً ما يتبنَّى هذه الأطروحات الفجَّة : الملْحدون ، الذين يُنْكرون مقام الربوبيَّة ، ويقولون بالعبثيَّة الكونيَّة ، التي تأباها العقول الفطريَّة السليمة ، فضلاً عن الأديان السماويَّة كلِّها .
إن مجرَّد تأمُّل الرتابة المستديمة في السلوك الحيواني : كافية للحجْز بينه وبين السلوك الإنساني ، الذي ينْفر منها ، ويسْتهجن في سلوكه التكْرار ، فما زال الحيوان – بكلِّ أنواعه وفصائله وأشكاله – يعيش دهوره المتعاقبة على نمط سلوكيِّ واحد ؛ فكلُّ نوع منها ينْهج طريقة واحدة لا تقبل التطْوير أو التغيير ، في حين لا يتقبَّل الإنسان شيئاً من هذا النهج لنفسه ، بل ولا يتقبَّل المجتمع من شخصٍ تكلَّف التكرار في سلوكه الاجتماعي ، حتى يسمه بالخبل والجنون ؛ فلو أن رجلاً تعمَّد - محاولاً - أن يُعيد أفعال الأمس وأعمالَه التي أنجزها فيه ، فيُعيدها مكرَّرة مرَّة أخرى ، تماماً كما كانت بالأمس في يومه هذا ؛ فإن المجتمع من حوله لن يتقبَّل سلوكه هذا ، معْتبره نوعاً من الجنون ، الذي لا يليق بالإنسان العاقل .
وللناظر أن يتخيَّل رجلاً زار خالة له بالأمس ، لم يرها منذ أشهر ، وقام أيضاً بصيانة مركبته ، وسدَّد فاتورة هاتفه...ثم أراد أن يعيد هذا السلوك عينه في يومه هذا – كما يفعل الحيوان مكرِّراً نشاطه في كلِّ يوم – فهل تُرى يتقبَّله المجتمع ، فضلاً عن أن يُطاوعه عقْله وشخْصه لقبول سلوك مشين كهذا ؟!
ولهذا يعْتمد المجتمع سلوك التعقُّل عند الإنسان ، ويسْتنْكر فيه السلوك الغريزي حين يصدر عنه ، باعتباره سلوكاً حيوانيًّا ، تأباه الطبيعة الإنسانيَّة المكرَّمة ؛ فالقطَّة حين تُحبس في غرفة مصقولة نقيَّة لا تراب فيها ، فإنها - حين تحتاج إلى قضاء حاجتها - تُمارس – كالمعْتاد - عمليَّة حفْر الموضع ، ثم دفن الفضلات !! فهي غريزيًّا تعْجز عن إنْجاز عمليَّة الإخْراج الفطْريَّة ، دون القيام بطقوسها الطبيعيَّة المعْتادة ، فلو أن إنساناً صادف أمامه باباً مغْلقاً ، ليس له مقْبضٌ يمكن تناوله باليد ، ثم أخذ – منْهمكاً - يُمارس فتحه كالمعْتاد ، وكأن المقْبض في يده يُحرِّكه ، وهو قطعاً ليس هناك ، أكان سلوكه هذا متقبَّلاً اجتماعيًّا ؟! أو أنه فقَد مفتاح عربته ، ثم أخذ يمارس فتح بابها كالمعتاد ، وكأن المفتاح في يده يُديره ، وهو قطعاً ليس هناك !! فهذه السلوكيَّات الغريزيَّة مقْبولة حين تصدر عن الحيوان ، أما حين تصْدر عن الإنسان ، فإنها مسْتهْجنة مُسْتنْكرة ؛ لأن التعقُّل ضروريٌّ لطبيعة السلوك الإنساني .
ثم هذا العطل الحضاري ، الذي أحاط بعالم الحيوان ، منذ دهور سحيقة مضت ، فلم يتمكَّنوا – ولا طائفة منهم – أن يُنْجزوا خطوة واحدة في سلَّم الحضارة الحيوانيَّة !! أو يُبدعوا منْجزاً ثقافيًّا مُتواضعاً ، على غرار ما يُخرْبشه أطفال المدارس في كرَّاسات الرسْم ، فما زال الحيوان محصوراً في أنماط سلوكيَّة غريزيَّة رتيبة ، حتى وإن بدت بعضها : زخْرفيَّة الأشكال ، أو غزْليَّة الأوتار ، أو نسْجيَّة الخيوط ، أو إنشائيَّة البناء...فكلُّ ذلك سلوكٌ غريزي الدافع ، غير مُتعلَّم ولا مُتدرَّب ولا مُكْتسب ، وإنما هو هداية ربَّانيَّة محْضة ، لا خيار فيها للحيوان ، ولا قصْد له فيها ولا غاية ، وإنما تصدر عنه فطريًّا بلا إرادة ، وغنيٌّ عن أن يُقال : أن الإنسان ليس كذلك .
وإن من عجائب خلْق الحيوان هذا التطابق الكامل في طبيعة النوع الواحد منه ، في الأشكال والطبائع والسلوك ، فما يزال كلُّ نوع منها محافظاً على وضْعه منْذ وُجد ، إلا أن تفْرض عليه ظروف البيئة الطبيعيَّة والمُناخيَّة تعديلاً ما في بعض أنماطه السلوكيَّة ، وإلا فإن الواحد من الأسود : يدلَّ بطباعه السلوكيَّة على طبيعة نوع جنْسه ، فلا يحتاج الباحث العلمي إلى تقصِّي طبيعة سلوك كلِّ أسد على حدة ، ليفهم طبيعتها السلوكيَّة ، بل الواحد منهم يدلُّ على جنْسه ، ومهما تكرَّرت الدراسات على قطْعان الأسود ، عبر سنوات متعدِّدة ، فلن يخرج الباحثون بنتائج ، غير تلك التي خرج به الباحث الأول ، إلا ما كان سببه التغيُّر البيئي ، الذي قد يطرأ على بعض المناطق والغابات ، فيُؤثر – بشكل ما – على سلوك الحيوان ، أما ما كان دافعه غريزيًّا ، فهذه خِلْقة لا تقبل التغيير ولا التبْديل ، ضمن الطائفة الحيوانيَّة الواحدة ، وفي البيئة الفطريَّة المتشابهة ، في الوقت الذي لا تقبل فيه طبيعة السلوك الإنساني التماثل أو التطابق ، فما زال كلُّ إنسان قضى الله تعالى وجوده ؛ في الماضي أو الحاضر أو المسْتقبل : يختلف عن الآخرين ، ولو كانوا يعيشون بيئته وزمانه وموْضعه ، حتى وإن كانوا توائم متطابقة الخلْقة ، فأنى لهم أن يتطابقوا في أخلاقهم السلوكيَّة ، أو اتجاهاتهم الفكريَّة ، أو ميولهم النفسيَّة ، فكلٌّ إنسان عالم قائمٌ لوحده ، حتى وإن بدت بعض المظاهر مُتشابهة ، في المجالات : الفكريَّة ، والسلوكيَّة ، والنفسيَّة ، فإن عدم التطابق بين اثنين من بني البشر ، هو آية من آيات عظمة الخالق جلَّ وعلا ، وعظيم قدرته .
ولعل فيما يلْمسه المتأمِّل من طبيعة التسخير الحيواني ، الملازمة لخلْقتها : ما يكفُّ الغلاة عن التسْوية بين الإنسان والحيوان ؛ إذ كيف يسوغ للمتساويين في الطبيعة الفطريَّة ، أو حتى المتقاربيْن فيها : أن يتفوَّق أحدهما – بصورة دائمة على الآخر – في تسخيره لخدمته ؛ في حمل أثقاله ، وإشباع بطنه ، وترويض خُلُقه...مما لا يتأتى من مجانين بني آدم ، فضلاً عن أسْويائهم ؛ لأن التمرُّد على السُّخْرة والاسْتعباد والإذلال طبع عامٌ فيهم ، لا يتقبَّلون شيئاً من ذلك على ذواتهم أبداً ، حتى وإن فقدوا عقولهم ، في حين هو سلوك حيوانيٌّ مقْبول ، لا يُكلِّف الإنسان كثير جهد وتعب ، حتى يبلغ من الدابة حاجته منها ، وفق مصالحه وأهْوائه .
ثم هذه الأخلاق ، التي تفرَّد بها الإنسان ، وأصبحت عنواناً له : أين هي من عالم الحيوان ؟! فما زال الإنسان : يصْدق ويكْذب ، ويُكْرم ويبْخل ، ويُؤمن ويجْحد ، ويتعلم ويجهل ، ويحْترم ويسْتهْزئ...ضمن قائمة طويلة من الأخلاق الفطْريَّة والمُكْتسبة ، التي تأتي ضمن ضروريَّات الطبيعة البشريَّة ، التي حُجب عنها عالم الحيوان بأسْره ؛ ولهذا يحتاج سائس الحيوان إلى جهد كبير ، وزمن طويل ؛ ليبلغ من الأسد أو الفرس أو الدُّب أو الكلب : سلوكاً واحداً مُغايراً لطبيعته الفطْريَّة ، التي خلَقه الله تعالى عليها ؛ لذا يأتي السلوك الجديد مثيراً للإعْجاب ، حين يصدر عن الحيوان الأعْجمي ، حتى وإن كان سلوكاً يسيراً ومحدوداً ، في حين يتعلَّم الطفل الصغير بفطرته الطبيعيَّة - من خلال مجرَّد المعايشة الاجتماعيَّة - سلوكيات ومهارات وأنشطة ، تفوق - الواحدة منها - تعلُّم أجود الحيوانات في سنوات تدْريب طويلة ، فضلاً عمَّا يتعلَّمه الطفل سريعاً من مسالك التعقُّل الاجتماعي ، والتعاطي الخُلُقي والأدبي .
ولهذا كان التكليف الإلهي – من خلال الرسل والرسالات – خاصيَّة إنسانيَّة من الدرجة الأولى ، لا مكان فيها للمملكة الحيوانيَّة بأجْمها ، فلم يُؤْثر أن خُصَّت طائفة من الحيوانات برسالة ربَّانيَّة ، فهذا القاطع الجذري ، بين عالميْ الإنسان والحيوان : لا يجوز لعاقل – من أية ملَّة أو نحْلة – أن يُعْرض عنه ، ليُشاغب – في المسألة - بغيره ، فهذا فاصل جذريٌّ ، لا يقبل الجدال ولا المحيد ، ولهذا تُجْمع الأديان السماويَّة : على أن وجود الإنسان طارئ على الطبيعة الأرضيَّة ، قد جاء إليها من خارجها ، وَفْق ما جاء في الكتب المنزَّلة ، من خبر نزول آدم وزوجه - عليهما السلام – إلى الأرض ، ثم هو - بعد زمن مقدَّر ومعْدود - يصير إلى جنة أو نار ، في حين أن الحيوان – كان وما زال – جزءٌ من مكوِّنات الطبيعة الأرضيَّة ، لا يُتصوَّر انْفكاكه عنها بحال ، فقد بدأت نشأته منها ، وهو عائدٌ إليها في نهاية المطاف .
وممَّا يُذكر هنا من الفوارق البارزة : انْفراد الإنسان – منذ أوَّل وجوده – بنوع واحد ، فكلُّ إنسان - عبر التاريخ البشري – ينْتمي إلى ذات النوع في غير تعدُّد أو تنوُّع أو اختلاف ، في حين أنه لو قُوبل هذا الانفراد الإنساني الأوحد : بحجم التنوِّع والتعدُّد والاختلاف والتطوِّر الحيواني ، لكان الفارق بينهما – عند كلِّ عاقل - في غاية الشقَّة والمباعدة والاتساع ، لا سيما إذا أُضيف إلى قائمة الحيوان كلَّ : طائر ، وزاحف ، وسابح ، إضافة إلى ممالك الحشرات المختلفة بأنواعها ، فحينئذٍ يتَّضح التصوُّر المذهل عند كلِّ متأمِّل منْصف .
وخاتمة الحجج العقليَّة في هذا المقام - مما يأتي مُجْهزاً على كلِّ معْترض مُكابر – قضايا : الكلام ، والضَّحك ، والبكاء ، التي انْفرد الإنسان بها وحده ، دون سائر المملكة الحيوانيَّة ؛ فاللغة الرمزيَّة ، التي تصدر عن الإنسان بحرفٍ وصوت ، مما حُرم منه الحيوان أجْمع : قد اخْتصرت له الزمان اخْتصاراً ، ومهَّدت له طريق المجْد الحضاريٍّ تمهيداً ، وذلك حين حوَّلت الأفْكار والأشياء ، والتفاعلات البشرية كلَّها إلى رموز لغويَّة ، يمكن للفرد التعبير عنها بسهولة ، بحيث تحمل اللغة - بين الحروف والأصوات - المعاني المطْلوب إيصالها إلى المتلقِّي ، بحيث تبْلغه مسْتوفية حاجة الطرفين – المتكلِّم والسامع – إلى البيان ، فهذا – في حقِّ الإنسان - وصف كمال ، وليس وصف نقْص ؛ ولهذا اتصف البارئ – جلَّ وعلا – بصفة الكلام ، فكلُّ كمال توافق عليه أسوياء البشر ، فالله تعالى أولى به .
وللمتفكِّر أن يُمعن عقْله في حجم المعاناة الاجتماعيَّة ، عندما يعْجز الأبكم عن إيصال رسالته عبر اللغة الرمزيَّة اليسيرة ، فيلْجأ مضْطرًّا إلى الإشارة والصياح ، فلو قُدِّر أن هذا هو أسلوب التواصل الاجتماعي والفكري عند البشر من أوِّل الخليقة ، فلا يكون لهم رموز لغويَّة يتبادلونها فيما بينهم : فأيُّ عطل مُجْهز ، يمكن أن يُحيط بالإنسانيَّة ؟ وأية أزمة حضاريَّة ماحقة ، يمكن أن تنْتاب البشريَّة ، مما يمكن لواصف بليغ أن يصف حالها ؟! فهذا العطل البياني ، هو الذي حاق بعالم الحيوان ، مما عافى الله منه عالم الإنسان .
وأما الضَّحك فمقْطوعٌ به أنه إنسانيٌّ بامتياز ، فليس في المملكة الحيوانيَّة ما يَضْحك ، فهذه خاصيَّة بشريَّة مفْردة ، لا يُنْكرها إلا مكابر لئيم ؛ فإن الحسُّ والوقائع والخبرات : تشْهد كلُّها لذلك بلا نزاع ؛ إذ الحيوان أحْوج إلى طبع الغضب منه إلى الضَّحك لحفظ ذاته ، ولهذا تغضب الحيوانات ، وربَّما ظهرت علامات ذلك واضحة على وجوه بعضها ، لا سيما الثديَّات منها ، فكيف يُسوِّي عاقل بين ما يضْحك وما لا يضْحك ؟ فإن الضَّحك صفة كمال بشري ، كخاصيَّة الكلام عندهم ، ولهذا اتصف الخالق – تبارك وتعالى – بصفة الضَّحك ، كما صحَّت بذلك الآثار ، فكلُّ كمال : الله تعالى أحقُّ به من المخْلوق .
وكذلك حال البكاء لا يخرج – بالنسبة للإنسان – عن الخاصيَّتين السابقتين ، غير أنه ليس من صفات الباري – سبحانه وتعالى – لما فيه من الانْكسار والتخشُّع ، مما لا يليق بالغني الجبَّار – تبارك وتعالى - ولهذا لا يُعدُّ البكاء – في حقِّ الإنسان – كمالاً بإطلاق ، إلا إذا كان باعثه نبيلاً ، ولا يُقال هذا في صفتي الكلام والضَّحك ؛ لأن الأصل في القدْرة عليهما هو الكمال .
وأما ما يُنقل في السير من أخبار حيوانات تبكي ، وأخرى تتكلَّم ، ولعلَّ بعضها يتعقَّل ، فهذه – إن صحَّت مرْويَّاتها في الجملة- فمحمولة على الإعجاز الربَّاني ، في إنْطاقها ، أو بُكائها ، أو نصْحها ، كما في حكاية القرآن عن نصْح النملة لأخواتها ، في خبر تعجُّب نبيِّ الله تعالى سليمان – عليه السلام - فهذه الخوارق الإعْجازيَّة ، لا تدفع الحقائق الفطْريَّة الثابتة ، ولا تردُّ المشاهدات الواقعيَّة المتواترة ، وإلا لم يكن للإنسان ميزةٌ يتميَّز بها ، إذا كانت الحيوانات تسْلك موافقة لسلوكه ، وتتعقَّل مطابقة لنهْجه !! كمن يزعم – مشاغباً - أن الببغاء يتكلَّم كالإنسان ، وقد غفل عمَّا هو أعْجب منه ؛ فهذه الجمادات كالمذياع والتلفاز والهاتف الجوال ، ونحوها كلُّها تتكلَّم ، وربَّما تفاعل بعضها ، مثل الروبوتات الحديثة الفائقة ، التي تحاكي بعض سلوك الإنسان ، فإن المتكلِّم - من هذه الجمادات – بغير أجْهزة الكلام ؛ من لسان وفكٍّ وحبال صوتيَّة : أعْجب وأدْعى للدَّهشة من الببغاء ، الذي يتكلَّم وقد امْتلك أجهزة الكلام .
ولئن كان الجهل بالدين الحقِّ عذراً لبعض الغافلين ، حين ضلُّوا في تحديد أصل الإنسان ؛ فإن عذر المسلم يضيق ، بل يتلاشى فلا يبقى له عُذرٌ يُقْبل ، حين يتيه في معْتقده حول أصل الإنسان ؛ فتختلط عليه الحقيقتان الإنسانية والحيوانيَّة ، فلا يعود يُميِّز بينهما ، وهو يقرأ قول الحقِّ – سبحانه وتعالى – في مركزيَّة الإنسان في الكون : ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (45/13) ، ويقرأ قوله – جلَّ وعلا - في تكريم الإنسان : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (17/70) ، فمن لا يهتدي بنحو هذا ، بماذا تُراه يهْتدي ؟