العبادة الحضارية

مقال شهر ربيع الأول 1438هـ

العبادة الحضارية

           الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيِّد الناس ، وحبيب الحقِّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماَ كثيراً ، أما بعد .. فقد كشف الله تعالى للمكلَّفين من الإنس والجنِّ الغاية من وجودهم على الأرض ، يخلف بعضهم بعضاً ، فقال الله تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (51/56) ؛ إذ ليس للخالق – جلَّ وعلا – غرضٌ من إيجاد الثقلين على هذه الأرض ، إلا من أجل تحقيق العبوديَّة الخالصة له تبارك وتعالى ، التي شملت بتكاليفها كلَّ مجالات الحياة الدنيا والآخرة ، في جميع تشعُّباتها وطرائقها المختلفة ؛ في نهج التنسُّك والتألُّه ، وفي نهج المعاملة والمخالطة ، وفي نهج السعي والعمارة ؛ فقد شرع المولى – عزَّ وجلَّ - للمكلَّفين نهج عبادتهم حين يتنسَّكون ويتألَّهون ، ونهج عبادتهم حين يتعاملون ويتخالطون ، ونهج عبادتهم حين يسعون ويُعمِّرون ، فكلُّ ذلك مضْبوطٌ بالوحي : (...وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (16/89) ، فلن يفوت الوحيُ شيئاً من مصالح العباد ، مهما كان دقيقاً ، فضلاً عمَّا يفتقرون إليه من جليل الأمر وعظيمه .

           ولئن كانت النظم الوضعيَّة تتسابق فيما بينها ، لوضع منْظومة تشريعيَّة شاملة ومحْكمة ، لا تفِّوت – حسب زعم مشرِّعيها – مصلحة صغيرة ولا كبيرة ، فإنهم مهما ادَّعوا من الشمول والضبط والدقَّة ، ومهما بذلوا من الجهد والبحث والنظر ؛ فإنهم قطْعاً لن يحقَّقوا للإنسان مصلحة الآخرة ، فقصارى جهودهم مهما بلغت ، ومنْتهى غاياتهم مهما عظمت : لن تتعدَّى بالإنسان – إن كُتب لبعضها النجاح - حدَّ الحياة الدنيا ، في حين أن مصْلحة الآخرة ، التي إليها مصير الناس جميعاً ، ونهاية كلِّ مساعيهم ، وغاية جميع مسالكهم : قد غابت بالكليَّة عن المشرِّع الوضْعي ، إما عن قصد أو عن غير قصدٍ ، فكلاهما – القاصد وغير القاصد – من المشرِّعين الوضعيين : سواءٌ في شأنها ؛ لأن مصْلحة الآخرة منوطةٌ بالمبلِّغين عن الله تعالى ، من الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فلا سبيل إلى تحقيق مصْلحتها إلا عن طريقهم .

         وهؤلاء المشرِّعون – مهما ادَّعوا من التواضع – فهم طائفة من الأرباب المزْعومة ، الذين نصبوا أنفسهم آلهة تُطاع من دون الله تعالى : ( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ...) (9/31) ؛ فإن من أخصِّ خصوصيَّات الإله : حقُّ التشريع لعبيده : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) (23/115-116) ، فالخلْق بلا أمر ، ولا نهي ، ولا إلزامات تشريعيَّة - في حقيقته - عبثٌ يستحيل في حقِّ الله تعالى .

         لذا فإن ربوبيَّة الله تعالى - المسْتلْزمة لألوهيَّته - تقْتضي حتْماً أن ينفرد وحده – جلَّ وعلا – بحقِّ التشريع لعباده ، فلا يُنازعه في حقِّ تعبيد العبيد أحد ؛ إذ هو – سبحانه وتعالى – أغنى الشركاء عن الشرك ، فلا بدَّ أن يخلُصَ له الخلْق وحده ؛ في توجُّههم العبادي ، وفي نهج تنسُّكهم ، وفي نوع حكْمهم ، وفي كلِّ دقيقٍ وجليلٍ من شؤونهم ، فلا يكون لله تعالى أندادٌ من الخلْق ، فتخْلُص بذلك العبوديَّة له وحده : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (1/5) ، بمعنى : إيَّاك أريد بما تريد ، فليس للعبد المملوك إرادةٌ تعارض إرادة السيِّد المالك سبحانه وتعالى ، إنما هو عبدٌ ينهج طريق ربِّه ، وهذا من ضروريَّات مقْتضيات الملْك ؛ إذ لا معنى لملْك لا يكون للمالك فيه إرادةٌ نافذة ، وحقٌّ كاملٌ في التصرُّف المطْلق : (...أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ...) (7/54) .

           غير أن الباري - جلَّ وعلا – بحكْمته البالغة : جعل للمكلَّفين إرادة محدودة ، ضمن مشيئته العامة ، يختارون لأنفسهم مسالكهم التعبُّديَّة ، فلا يتعدُّون بإرادتهم حدود مشيئته التي أذن لهم فيها ، وبمقتضاها تكون المحاسبة والمؤاخذة يوم القيامة ، فينقسم الناس – بناء على مراداتهم - إلى شقيٍّ وسعيد ، فلا يُتجاوز بالمكلَّف اختياره لنفسه ، بمقتضى إرادته الحرَّة ، ضمن مهْلة التكليف ، التي أمهله الله تعالى إيَّاها : (...وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ) (21/102) .

           وبناء على هذا الفهم : فلن تكون العبودية مهمة خارج قدرات الإنسان وطبيعته ، بحيث يعجز عن تحقيقها ، فهي مهمَّة ضمن القدْرة البشريَّة ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فهي تكليفٌ موافق للفطْرة الإنسانية الطبيعيَّة ؛ إذ لا بدَّ للإنسان أن يعبدَ ويتألَّهَ شيئاً ما ، فإما أن يعبد الإله الحق ، وإما أن يعبد آلهة باطلة ، فإلْحاح الفطرة للتعبُّد لا يسْمح بشغور موضعها من النفس الإنسانيَّة دون إشْغال ، فإذا لم يجد الإنسان طريق العبادة الصحيح ، فيهتدي إلى النهج القويم ؛ فإنه – بالضرورة - يتعبَّد آلهةً أخرى ؛ إذ الخلَّة النفسيَّة للتعبُّد لا تسكن إلا بممارستها ، حتى إن الضال من الناس يغيب عن عقله في ممارسات تعبُّديَّة لا تُعْقل ولا تُفْهم ، فقد عبَّر المؤرخ الأمريكي ول ديورانت في كتابه الكبير ، المعنْون بقصَّة الحضارة ، عن طبيعة الإنسان الملحَّة للتعبُّد ، وضلاله – في ذلك -  حين يضلُّ ، فقال : ( ما من حيوان في البيئة ، إلا كان - في يوم من الأيام - مقدَّساً عند أمة من الأمم ، باعتباره إلهاً ) ، فلا حدَّ للضلال العقدي عند الإنسان ، حين يفْقد مسْلك الاستقامة والهدى ، فيهبط بنفسه إلى دركة سحيقة ، ليس دونها ما يمكن الهبوط إليه . 

           وهذا السقوط البشري المدوِّيٍ ، هو نفسه سقوط كلِّ كافر ومشْرك من أهل الملل والأهواء ، لا سيما من عبَّاد الأصنام في العصور الجاهليَّة السابقة ، ومَن شابههم في العصور الحديثة القائمة ، فما زال الإنسان – منذ القديم – يفصل بين سلوكه التعبُّدي الضال غير المنْطقي ، وبين مقْتضيات العقل الصريح في العمارة الحضاريَّة ، حتى إنه يقيم الحواجز المتينة المحْكمة ، بين ما هو عبادي غير معْقول ، وبين شؤون الحياة المتعَقَّلة ، فلا يضيره اجتماعيًّا أن يمارس السلوكيْن بكفاءة كاملة ، ولا يشينه في نفسيًّا أن يكون عاقلاً ومجنوناً في وقت واحد .

         ولعلَّ ما يجلِّي الفكرة قصَّة نبيِّ الله إبراهيم – عليه السلام – مع قومه ، حين أراد يقظتهم من غفْلتهم المطْبقة ، من خلال كسْر الحواجز السوداء المظْلمة بين العبادة والعقل : ( فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ، مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ ، فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ، قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ، قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ) (37/91-97) ، فرغم وضوح حجَّة العقل ، وسقوط زيف الوهم ، وانْكشاف الحقيقة جليَّة بيِّنة - ومع ذلك - غلبت الأهواء المسْتحْكمة على صريح العقول المكلَّفة ، فلم تُغْنِ قوَّة البيِّنة عن الهالك شيئاً ، وإنما زادته رجْساً إلى رجْسه ، وصلَفاً إلى صلَفه .

         وعلى الرغم من أن مُقتضى وجود الأهليَّة العقليَّة عند الإنسان : أن يكون سلوكه ، واختياراته ، وأهدافه : مُتعَقَّلة منْطقيَّة ، فلا يصدر عنه إلا ما يوافق مقتضيات العقول الفطريَّة السليمة ، فكيف ساغ للعاقل المكلَّف أن يفصل هذا الفصل المقيت ، بين ما هو تعبُّدي تنسُّكي ، وبين ما هو إنشائيٌّ حضاري ؟! فتراه في سلوكه التعبَّدي أبعد ما يكون عن التعقُّل ، في حين هو في مصالح دنياه حضاريٌّ متعقِّلٌ بامتياز ، في الغاية من ذلك في تعامله الحضاري مع البيئة الماديَّة ، فما زال الضال من بني آدم يجوب الفضاء بأقماره الصناعيَّة ، ويغوص الأعماق بغوَّصاته الذريَّة ، ويُعمِّر الأرض بقدراته الإبداعيَّة ، ويجدِّد ويُطوِّر في كلِّ مجالات العمارة ، فيأتي بما يُبْهر العقول ، ويذهب بالألباب ، في الوقت الذي هو فيه منْحطٌّ عقْديًّا ، ومنْكوسٌ تعبُّديًّا !! ولهذا لما أُسْقط في أيديهم – يعني قوم إبراهيم – وبانت لهم الحجَّة البالغة الدامغة ، وحصلت لهم - بوقْعها الباهر على عقولهم - اليقظة الضروريَّة : إذا بهم ينْتكسون من جديد ، راجعين إلى انحطاطهم العقلي السابق : ( فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ ) (21/64-65) ، فإذا بخرَس الأصنام ، الملازم ضرورة لطبيعتها ، مما هو نقصٌ وقصور : يتحوَّل - عند مجانين التعبُّد - دليلاً لردِّ الحجج الماديَّة الساطعة ؛ بحيث يكون الواقع القاصر المخْزيُّ للآلهة المزْعومة : حجَّة لا بدَّ من احترامها !!

          وهكذا عالم الإنسان لا يكفي فيه قيام الحجَّة - مهما كانت واضحة وجليَّة - ما لم تكْتنفها إرادة إلهيَّة نافذة ، وهداية ربَّانيَّة راحِمة : ( وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ، يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) (76/30-31) .

         من هنا فإن العبودية الحقَّة نهج شامل كامل ، ينتظم الإنسان بكل أبعاده الشخصيَّة ، المكوِّنة لذاته البشريَّة ، المفْتقرة إلى التنسُّك والتألُّه ، من خلال الشعائر التعبُّديَّة ، كما يشمل – في الوقت نفسه – حركته الحياتيَّة في جميع أنشطته البيئيَّة المخْتلفة ، المتعلِّقة بسعيه الحضاريِّ في الإنشاء والعمارة وإثارة الأرض ، فكلُّ ذلك - في جميع كليَّاته وتفصيلاته - عبادة معْقولة ، لا يخرج شيء منها عن نطاق الإرادة الإلهيَّة الشرعيَّة : ( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (10/61) ، فمحْراب الصلاة موازٍ تماماً لمحراب المخْتبر ، يتناغمان معاً في المسْلك التعبُّدي ، ويتطابقان معاً في الغاية نحو رحاب الله تعالى ، كلٌّ حسب نهج هدايته ، فتتحقَّق – من خلال المحْرابين في تناغمهما وتطابقهما – العبوديَّة الحضاريَّة ، التي أرادها الله تعالى من خلافة الإنسان في الأرض ، فلا منازعة ولا مخاصمة بين نهْجي العبادة : الشعائرية التنسُّكيَّة ، والتعميريَّة الإنشائية ، فكلاهما يتوافق مع الآخر ، في خطِّين مستقيمين متوازيين ، لا يختلفان ولا يتقاطعان ، يشقَّان طريقهما نحو غاية كليَّة نهائية : هي مرضاة الله تعالى .   

        وبناء عليه : فإن كلَّ نشاط موافق للشرع يدخل في مفهوم العبادة ؛ فهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ، فلا يشذ عنها شيء من حركة الإنسان الظاهرة ، ولا مراداته ومقاصده الباطنة ، كلُّ ذلك مشْمولٌ بمنهج العبادة ، بما في ذلك فروض الكفايات ، بكلِّ أنواعها وفروعها ، مما تصْلح به الأرض وتعْمر .

           وهذا الفهم الشامل لمدلول العبادة : لم يكن غائباً عن جيل الصحابة – رضي الله تعالى عنهم -  فقد كان حاضراً في الأذهان ، حين أنزل الله تعالى تزكيتهم بقوله : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...) (3/110) ، رغم أنهم كانوا - حين نزولها - في شدَّة وكرْبٍ من ضيق العيْش ، يحيوْن حالة من التخلُّف المادي في العمارة والإنشاءات ، إلى درجة انكشاف عورات بعضهم من قلَّة الأكسية ، حتى قال سهل بن سعد – رضي الله عنه – في وصف هذه الحالة الشديدة : ( لقد رأيت الرجالَ عاقدي أُزُرهم في أعناقهم ، مثلَ الصبيان ؛ من ضيق الأزُر ، خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال قائل: يا معشر النساء ، لا ترفعنَّ رؤوسكنَّ حتى يرفع الرجال ) ؛ وذلك خشية من اطِّلاعهنَّ على عورات بعض الرجال حال سجودهم ، ومع هذا الضيق الحضاري الشديد : فقد كانوا خيرَ أمة أخرجت للناس ، ليس ذلك لما هم فيه من الضيق المادي ؛ فالتخلف لا يُحمد ، وإنما لما يحملونه في نفوسهم وعقولهم من النظر الحضاري المفْعم بالعبودية لله تعالى ؛ ولهذا ما لبثوا طويلاً – حين فتح الله عليهم - حتى عمروا الدنيا بالعبوديَّة الحضاريَّة ، في أجمل وأحسن صورها ، فقادوا الإنسانيَّة – ديناً ودنيا – نحو فرجها وسعادتها ، فتهيَّأ للمكلَّفين - من كلِّ ملَّة - حريَّة الاختيار في غير إكْراه ، فتمتَّع الجميع – المؤمن والكافر – بكرامة الإنسان ، ورحمة الإسلام ، في ظلِّ عبوديَّة الجميع لله تعالى : اختياراً أو اضطراراً ، حتى أصبح الدين كلُّه لله تعالى وحده .