مقال شهر صفر 1438هـ
مهالك العُشَّاق
الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وكرَّمه أحسن تكريم ، وكلَّفه أفضل تشريع ، فلا يضلُّ بعد الهدى ، ولا يشقى بعد السعادة ، ولا يتيه بعد الرشد ، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد ، وأشهد أن محمداً عبده وصفيُّه وخليله ، بلَّغ رسالة النور ، وأبان نهج الحقِّ ، وأسس سبيل العدل ، فلا إفراط ولا تفريط ، ولا غلوَّ ولا تقْصير ، أما بعد .. فإن الإنسان هو أعجب مخلوقات الله تعالى ، بما حباه الخالق – جلَّ وعلا – من عظيم الملكات والمهارات ، وجليل الفهوم والنظرات ، وكريم المشاعر والسجيَّات ، فهو كائن متفرِّد ، ليس بجانٍّ ولا شيطان ، ولا ملَكٍ ولا حيوان ، وإنما هو بشرٌ ، خُلق خلْقاً مسْتقلاً عن سائر المخلوقات الأخرى ، غير أنه قد يُشْبه بعضَها في شيء من مظاهر بدنيَّة وسلوكيَّة ، إلا أنه يبعد عنها في مراداته وغاياته ، ويتميَّز دونها في مشاعره وأشواقه ، ويَبينُ منها بتعقُّله وانْضباطه ، فبقدر ما يفقد الإنسان من مميِّزاته البشريَّة ، وسجاياه الخلُقيَّة ، وضوابطه العقليَّة ، فإنه ينحدر منْحطًّا إلى أشباهِهِ الحيوانيَّة ؛ فإذا فقد إيمانه صار شيطاناً مريداً ، وإذا فقد أخلاقه كان حيواناً وضيعاً ، فالإنسان لا ينْزل من عليائه السامقة – التي بوَّأه الله تعالى - إلى ما يشينه في دينه وخُلُقه ، إلا حين يتخفَّف مما هو به كريم ، ويُعرض عمَّا كان به عزيزاً : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث...) (7/175-176) .
وكما أن سموَّ الفائزين عُروجٌ في درجات ، يرْتقي فيها الفائز في سلَّم المجد عتَبات ، فإن انْحطاط الهالكين درَكات ، يهبط الهالك في أسافلها طبقات ، وينحدر في عمقها مسافات ، فلا يكاد يبلغ قاعها لبعْد عمْقها ، وطول منْزَلها : (...وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) (22/31) ، ومن دون قاعها السفْلى مهابط رذيلة ، ومَهاوٍ أخرى حقيرة ، يسقط فيها التعساء ، ويتردَّى فيها الأغبياء ، فبقدر تعاسة الشقيِّ ؛ في ضعف فطْنته ، وسوء تدبيره ، وغلبة هواه ، وقبْح داخِلته : يكون حجم عطَبه ، وشدَّة تيهِه ، وهَوَان نفسه ، وانحطاط ذاته ، فمستكثرٌ من ذلك ومقلٌّ ، ومُسْتزيد منه ومتخفِّفٌ .
وإن من مراذل الإنسان وقبائحه ، وخسيس سقطاته ومسالكه : وقوعه في العشق ، خارج نطاق الزوجيَّة المشْروعة ، أو ملك اليمين المباح ، فأوَّل العشق لعبٌ وهزلٌ وتفرُّجٌ ، وآخره جدٌّ وعقْرٌ وتمرُّغ ، فما يلْبث اللَّعوب المتجرِّئ طويلاً ، حتى يغدو أسيرَ لهْوه ومُجونه ، محْبوساً في قبوِ العشَّاق ؛ فهو سهل المدخل إلى القلوب الضعيفة ، ولكنَّه عسير المخرج إذا تمكَّن منها ، فإذا بلغ العاشق مراده بوصال حبيبه ، في غير ريبة شرعيَّة محرَّمة ، ولا قبيحة اجتماعيَّة مُذمَّمة ، ثم دامت العشْرة بينهما طويلاً ، حتى يهلك أحدهما : فقد نجيا من مقاتِل العشق المحقَّقة ، المكْتوبة على الماجنين ، ومهاويه المهْلكة ، المقْضيَّة على الفاسقين ، فعلى الباقي منهما مصابرة الأيام والليالي ، فعمَّا قليل يلحق صاحبه .
وإنما العطب كلُّ العطب في عشقٍ معطَّلٍ لا يبلغ منتهاه ، وأملٍ يائسٍ لا يصل مُبْتغاه ، فتحول بين العشيقين أقدار ربَّانيَّة مقدَّرة ، أو شرائع دينيَّة مُحْكَمة ، أو أعْراف اجتماعيَّة محْترمة ، وهذا الغالب على وقائع العشَّاق ؛ إذ غالباً ما يتورَّطون في العشق بمجونهم ، وقبيح صنيعهم ؛ في جُرْأة سلوكهم ، وقلَّة أدبهم ، مما يسْتنكف معه الأولياء ، فلا يستجيبون لأهوائهم ، ولا يلينون لعواطفهم ؛ لما في سلوكهم من الوقاحة والخسَّة ، وتجاوز الحدود الأخلاقيَّة ، وتخطِّي الآداب الاجتماعيَّة المرْعيَّة .
وهنا عند هذا الحدِّ من الصدِّ الاجتماعي ، والصلف العائلي : تبدأ معاناة العاشقين وعذاباتهم ، في درب الهلاك والعطب ، وطريق العذاب والندم ، فلا عودة إلى الوراء ؛ بتجنُّب أسباب الهوى ، فقد فات أوان ذلك ، ولا تقدُّم إلى الأمام بنيل المطلوب ، فثمَّ حاجز الشرع ، وسوط المجتمع ، فلا سبيل للمفْتونين سوى الصبْر على ما لا يقدرون عليه ؛ من مكابدة لهيب الشوق الحارق ، وأليم الفُرْقة القاتِل ، فما يزيد تتابع الأيام على المفْتون إلا كمَداً وصبَابة ، وما تخْلُف السنين على فتْنته إلا توقُّداً واشْتعالاً ، فلا هو بواصلٍ فيسْعد بوصاله ، ولا هو بناسٍ فيستريح بنُسْيانه ، وإنما تقلُّ معاناة العاشِق إذا كان دافعه الشهوة فيضعُف الألم بضعْفها ، أما إذا كان مبْعثه مشاكلة النفس وميلها ، فهذا في الغالب يدوم للتعيس ، فلا تزيده الأيام إلا شحْذاً ، ولا تمدُّه السنوات إلا وَقوداً .
حتى إذا أضناه الشوق ، وبلغ منه مبْلغه ، فلا مزيد فوق ذلك يُطيق تحمُّله ، فعندها يخْرج العاشق عن سكونه ، بطلب الحيلة إلى محْبوبه ؛ فإن العشق وَقود الجبناء ، ومُحرِّك الخاملين الأغبياء ، فإذا به يحوم حول الديار ، ويسْترق السمع والأبصار ، ويبعث بالرسائل والإشارات ، ويتلقَّف العلوم والأخبار ، يروم كلمة يسمعها ، أو إطْلالة يرمُقها ، أو حتى حركة يأْنسها ، أو معْلومة يتعرَّفها ، فما يزال كذلك على حالته البائسة ، قد انتهى أمله إلى نظرة تَشْفيه ، وخلص رجاؤه إلى همْسة تُرْضيه ، وانْحصرت رغبته في قُصَّة تُلْهيه ، فإذا بلغ من محبوبه فوق ذلك ؛ من لقاء في خفْية يجمعهما ، فقد بلغ المنتهى في الأمل ، والغاية في المراد ، فإذا تفطَّن له القوم بأسْيافهم ، وتناولوه بسياطهم ، وأوعدوه بعقابهم : فقد هلك بانقطاع وسائل الوصال ، فليس له إلا زفرات الأنفاس الحارَّة ، تنْبعث من جوف خاوٍ محروق ، لم يعد فيه إلا خيالات المعْشوق ، تتراءى له في كلِّ ناحية من نفسه ، وتتمثل له في كلِّ زاوية من فكره ، فلا ينْتفع بشيء من ملكاته ، فلا هو بحيٍّ فيعمل ، ولا بميِّت فيُدْفن ، قد غابت نفسه عن الحياة ، فليس هو في شيء من مشاغل الناس واهتماماتهم ، قد انقبضت نفسه إلى داخلها ، منْشغلة بعظيم كرْبها ، فلا يفهم ممَّا يخوض فيه الناس ، ولا يتنبَّه إلى أحاديثهم ، إلا ما كان إشارة تُذكِّر بمحْبوبه ، أو رمْزاً يُثير إلى معْشوقه ؛ فالاسم ومشتقاته ، والناحية وجهاتها ، والدار وعوالِقها ، وغيرها مما يذكِّر بالمحبوب ، فلا يهَشُّ ولا يبَشُّ إلا لنحو هذه المعاني ؛ إذ لم يعد في قلبه من الدنيا إلا هذا .
ومن عجائب الوقائع الحديثة في هذا الشأن ، أن شابًّا وسيماً من أحسن ما يكون من فئات الشباب ، مع خلق ودين وعلم ، خطبه رجلٌ ثريٌّ لإحدى محارمه ، فتزوَّجها ودخل بها ، فإذا هي رتْقاء ، يستحيل جماعُها ، فمكث معها سنتين على هذا الحال ، ثم قرَّر طلاقها ، فما لقيَ بعدها خيراً ، قد تبعتها نفسُه كأشدِّ ما يكون ، وما عرف أنه عاشقٌ لها ، ولم يكن له سبيل إلى رجوعها ، فقد استنكفت ذلك هي وأهلُها ، وقد كانت قبل زمن يسير في عصْمته ففرَّط فيها ، فما هي إلا سنوات معدودات قلائل مرَّت على هذا الشاب ، لم تتْرك له في رأسه ولا وفي لحيته شعرةٌ سوداء ، حتى عاد شيخاً في سنِّ الشباب ، مع ما لحقه من التدهور الصحي : البدني والنفسي ، وتعطُّل حياته العلميَّة والعمليَّة ، وتعثر استئنافه حياة زوجيَّة جديدة ناجحة ، ومع كلِّ هذا لم يُفصح صراحة عن تعلُّقه بزوجته الأولى ، ولكن حين سأله أحدهم - في ساعة صفاء مرَّت به - : ( ما رأيك لو عادت لك فلانة ) ؟ فقال على البديهة ، بلا سابق تأمل ولا تفكير : ( تبْتسِم الحياة ) !! فما لبث أن تنبَّه سريعاً لتصريحه هذا ، فأنكر ما قال وجحده ، فكذب لسانه ما استقرَّ في قلبه ، وقد صدق ؛ فإن الذي صرَّح بهذه الحقيقة ، إنما هي النفس وليس اللسان .
ولهذا كثيراً ما تنطلق قرائح المكْلومين ، بالبيان : شعراً ونثْراً ، فيأتي بعضهم بما لا يقْدر على مثله فحول الكُتَّاب والشعراء ، ممن عُوفيَ من ورطاتهم ، فلم يذق حُرْقتهم المؤلمة ، ولم يكْتوِ بمكْواتهم الحارقة ، حتى عجب العجب من تراكيبهم اللغويَّة ، ومفاهيمهم الفكريَّة ، وقدراتهم الإبداعيَّة ، وكأنها نُظُم الشياطين وكلامهم ، وهم في الحقيقة لا يزيدون في تعبيراتهم الصادرة من عمْق نفوسهم ، عن وصف أشواقهم ، وعظيم مصابهم ، وجليل خطْبهم ، في جمل وأبيات لا يقدر على مثلها إلا مصْروع مكْلوم ، قد بلغ منه الضنى مبلغه ، فهم لم يجدوا إلا اللغة المنْظومة ، فحمَّلوها أحزانهم ، وعبَّؤوها آلامهم ، وبثوها شجونهم ، فكانت رسول صدقٍ وفيٍّ أمين ، حفظت كلماتهم ، وأبلغت آهاتهم ، وما زال الأدباء على مرِّ العصور ، يتندَّرون بأبيات قالوها ، ويتغنَّون بقصائد سبَكوها ، حتى غدت عيوناً من الشعر لا نظير لها في بابها ، وهذا من المفارقات العجيبة ، أن يأنس ذوَّاقة الأدب بمصارع العشَّاق ، كقول مجنون ليلى ، قيس بن الملوِّح ، حين فاتته ليلى إلى غيره من الأزواج :
قضاها لغيري وابتلاني بحبِّها فهلا بشيءٍ غير ليلى ابْتلانِيَا
حتى إذا أُغلقت على العاشق المنافذ ، وأُوصدت دونه الأبواب ، وتنكَّر له الناس : هام المسْكين على وجهه في الصَعُدات ، يتوسَّد التراب ، ويلْتحف السماء ، مسْتوحشاً من كلِّ شيء ، قد ذهِل عن نفسه حتى تلِفت ، بتعاقب الأحزان ، وتوارد الهموم ، ففي العشق نصف الأمراض والأدواء ، وقد قيل : السُّل داء الحبِّ ، فالعشق يُنْحِل البدن ، ويُعْشي بالبصر ، ويُعطِّل العقل ، ويُذهب الهمَّة ، ويُذلُّ الكرامة ، فهو نوع من الخبل العقلي ، إذا لم يكن هو الجنون على الحقيقة ، فليس لقتيله إلا الحسرات يكابدُها ، والآلام يُعانيها ، فما يبلث – مَن هذا حاله – أن يتوحَّش ، بطول زمان التصحُّر والشرود ، فينفر من البشر إلى الوحوش ، ومن الحواضر إلى الحُشوش ، وفي معنى هذا الشقاء المحتوم قال الشاعر :
وما في الدهر أشْقى من مُحبٍّ وإن وجد الهوى حلْو المذاق
تراه باكياً في كلِّ حالٍ مخافة فُرْقةٍ أو لاشْتياق
فيبكي إن نأى شوقاً إليهم ويبكي إن دَنوا خوفَ الفِراق
فتسخُن عينُه عند التنائي وتسخُن عينُه عند التلاقي
إن هذه الأعطاب المعطِّلة ، والمهالك المضْنية ، التي تصيب العشَّاق في مقاتِلهم ، فلا تُبْقي لهم قوَّة في الأبدان ، ولا صحَّة في الأفهام ، ولا بصيرة في الأذهان : إنما مبْدأها – في غالبه - من فضول النظر للمستحْسن من الناس وترْديده ، وإرْعاء السمع لأوصافه وتأكيده ، فإذا صادف - وقْعُ ذلك - قلْباً فارغاً ، فقلَّ أن ينجو الجريء من المهْلكة ، وهذا ما أباح به مجنون ليلي ، حيث قال عن مبْدأ عشْقه :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلْباً خالياً فتمكَّنا
ورسول العشق بين قيس ولُبْنى كان هذان : النظر والسمع ، حين مرَّ بمضاربهم فاستسقاها فناولته الماء ، فتأمَّلها لحْظة زمان يسيرة ، فما لبث أن علِق بها وعلقت به ، وقد أنشد أحدهم بمحضر الخليفة المأمون العباسي :
إن العيون التي في طرْفها مرضٌ قتلْننا ثم لم يُحْيينَ قتْلانا
يصْرعن ذا اللُّب حتى لا حَرَاك به وهنَّ أضعف خلْق الله أرْكانا
ولهذا أمر الشرع الحنيف بغض الأبصار عن المحرَّمات ، وكفِّ النساء عن نقل أوصاف الأخريات إلى أزواجهنَّ ، ومنع الشرع الخلوة والاختلاط بين الجنسين ، وأمر بالتفريق بين أنفاسِهم ، فإذا جمعهم جامع لا بدَّ منه : قام الحجاب حائلاً دون الفتنة بينهما .
وليس الأمر بغضِّ الأبصار موقوفاً على الجنسين ، فإن داعي الفتنة بالغلمان المرْد المسْتحْسنين قائم شاهد ، خاصَّة في هذا العصر ، الذي يعيش فيه الشواذ أحسن أزمانهم ، بل قد تكون الفتنة بهؤلاء آكد ؛ لدوام الخلْطة وانْتفاء الشبْهة ، وما زال الناس منذ أوَّل الدهر لا يحجُبون الفتْيان كما يحجُبون النسْوان ، لهذا كثرت الفتنة بهم ، فيهلك فيهم الهالكون ، حين يأمن أحدهم على نفسه ، فيُطْلق النظر ، ويُديم الخلْطة ، حتى يقع في فخِّ العشق ، ولئن كان مثل هذا التعلُّق كثيراً بين الفُسَّاق ، فإنه غير مُستبعدٍ على بعض النسَّاك ، في حال سهوٍ وغفلةٍ يدخلها الشيطان ، فقد قال أحد المتنسِّكين العبَّاد ، متأسِّفاً على هفْوة صدرت عنه ، حال غفلة كانت منه ، حين نظر إلى غلام حسن الوجه ، فكانت فيها مهْلكته : ( الحمد لله على كلِّ حال ، كنَّا أحراراً بطاعته ، فصرْنا عبيداً بمعْصيته ) .
ويخطئ من يظن أن العشق لا يكون إلا عن جمال الصورة ، وكمال الخلْقة ، وحُسن المنْطق ، وطيب المعْشر ، ونحوها من الأوصاف المسْتعذبة ، فهذا إن صحَّ في الأغلب الأعم ، فإنه لا يعمُّ كلَّ وقائع العشق بين اثنين ، فقد يُسْتملح القبيح ، ويُسْتهوى الوضيع ، ويُسْتلْطف الرديء ، لا سيما إذا طال بينهما الوصال ، فعالم الإنسان ليس فيه عمومٌ تامٌّ لا شواذ له ، حتى يُعْمي الحبُّ بصره وبصيرته عن مساوئ محْبوبه ، فقد يغيب العاشق المفتون عن طِباع البشر الفطْريَّة ، فلا يُميِّز بين رائحة الطيب ونتَن البصل ، وإنما همُّه الأوحد : رضا محْبوبه ، فلا بديل عنه مهما استحسنه الناس ، ولا عوض له مهما تزيَّن غيره بالأوصاف ، وفي الخبر : ( حبُّك الشيء يُعْمي ويُصِمُّ ) .
ومما يصدق على مثل هذا بين بعض المحبِّين ، أن فتىً جميل المطْلع علِق بجارة له ، ليس فيها ما يُسْتملح ، وهما في بيئة اجتماعيَّة شديدة المحافظة ، لا تسمح للفتاة بالخروج من المنزل ، لا لتعليم ولا لغيره ، كما أنهما من أسْرتين لا يجمع بينهما نسب ولا قرابة ولا كفاءة ، تسْتهجن كلُّ منهما الزواج من الأخرى ، ومع ذلك خضعتا لرغبتهما ؛ لحديث : ( لم يُرَ للمتحابين مثل النكاح ) ، على أن تخرج الفتاة من بيت أهلها بلا عودة ، فحملها الفتى إلى بيئته البعيدة عن أهلها وموْطِنها ، فقاست نفْرة أهله ، وقسوة قرابته ، وقلَّة ذات يده ، ومكثت عنده أكثر من أربعة عقود من الزمان حتى ماتت ، فلم يكن لها زادٌ على قسْوة الحياة ، إلا هذا الودُّ بينهما .
ومن عجائب ما يكون من هؤلاء العشَّاق : أن تتورَّط عجوز مُتَصابية في شابٍّ ماكر خدَّاع ، يُسْمعها ما يُستعذب من الجمل والكلمات ، ويواعدها بطيب الأيام والأوقات ، فتظنُّ الغبيَّة أنها تسْتأنف بهذا الفتى زمن الشباب ، فتعود إلى ما كانت تعْرف من نفسها زمن الفتوَّة والنشاط ، حتى تُغلب - بهذه الأفكار الطائشة - على عقْلها ، فتأتي مسالك المراهقات ، وتتعاطى طرق الغانيات ، حتى تُزعج أولادها ، وتشين أقرباءها ، فلا ترْعوي بموعظة ، ولا تستمع إلى نصيحة ، فتختصر الحياة في هذا الشاب الفتَّان ، ممن قد يكون : ساقط الهمَّة ، قليل المؤونة ، قبيح المطْلع ، ومع ذلك تتمسَّك المفتونة به كأقوى ما يكون ، فتُعْطيه كلَّ غالٍ ونفيس ، لعلَّه يُخلِّصها من شبح الشيخوخة المؤرِّق ، فيُوقف لها سنوات العمر السريعة ، لتبقى – حسب وهْمها - كما تُريد ، ضمن أحلام صغار العصافير .
وهذا لعمر الله من غرائب بني آدم ، فإن العشق هو الجانب الناعم الليِّن من الطبْع البشري ، لا يُدْرى كيف يَنْساب إلى داخِلَة الإنسان ، ولا يُعْرف متى يهْجم على صاحبه ، وإنما يُفصح العشق عن وجوده بعد استقراره وتمكُّنه ، وذلك بقوَّة أثره في صريعه ، وسلطانه على قتيله ، فلا يقدر طويلاً على كظْمه ، ولا يُمكنه على الدوام حجْبه ، فالعيون التائهة ، والأبدان المنْهكة ، والعقول الشاردة ، والنفوس المغْلقة : كلُّهم شهودٌ على صريع العشْق ، الذي غدا لا يفهم ما يفهمه الناس ، ولا يعي ما يعونه ، لا يُبصر ما يرونه ، فهو وإن كان بينهم بجسده ، فقد غاب عنهم بهمِّه ، وإنما يسْترجعونه بذكر محبوبه ، ويُوقِظونه بخبر معْشوقه ، فعندها ينْشط لذلك ويبُشُّ .
وهذا كلُّه لا يصحُّ أن يصدر من المؤمن الصادق ، فإن الحبَّ الأكبر والأعظم لا يجوز بحال أن يكون لغير الله تعالى ، فهو صاحب النعم أوَّلها وآخرها ، وظاهرها وباطنها ، فكلُّ نعمة فهي منه وإليه جلَّ وعلا ، فلا يجوز أن يُحِبَّ المؤمن نعمة - أياً كانت - أكثر من حبِّه مُسْديها سبحانه وتعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ...) (2/165) .
والملاحظ أن مبْعث التجاذب بين الجنسين هو داعية النسل الغالبة ، التي تُلحُّ - بدوافعها القويَّة - نحو التلاقي ، سواء كان تلاقياً مشْروعاً أو ممنوعاً ، فعنف الغريزة ، وتجذر أصولها ، وقوَّة مُضيِّها ، وصعوبة كفِّها ، وسعة شمولها ، كلُّ ذلك يشير بوضوح إلى الغاية المقْصودة من تركيبها على هذا النحو الفطري العجيب ، وهو بقاء النوع الإنساني ، يخلُف بعضهم بعضاً على هذه الأرض ، لدوام تحقيق العبوديَّة لله تعالى وحده ، فلا يصحُّ أن ينْشغل المكلَّف بالوسيلة المشروعة عن الغاية المنْشودة ، فضلاً عن أن يُقدِّمها عليها ، أو أن يسْعى مختاراً في تبعاتها الممنوعة ، ويقع بإرادته في مزالقها المحظورة ، فليس أحدٌ من المسْتهترين إلا وهو عُرْضة لفتنة من هذا النوع ، تستنظف نفسه ، وتُهلك روحه ، وتُتْلف بدنه ، وقد كان في عافيه قبل اقتحامه في المفازة المُهْلكة .
والعجيب في شأن مشاهير العشَّاق ، ممن نُقلت جملةٌ من أخبارهم ، ودوِّنت كثيرٌ من أحوالهم ، أنهم لم يقعوا في المحظور الأكبر ، وإنما غاية سقوطهم في النظر والكلام واللَّمْس والخلوة ، لا يزيدون على ذلك ؛ فقد صرَّحت بذلك ليلى الأخيلية ، صاحبة توبة الحميري ، للحجاج بن يوسف حين تجرَّأ – كعادته مع الرعيَّة - فسألها عن حدِّ العلاقة التي كانت بينهما ، وكذلك صرَّح - بنحو هذا - جميل بن معمر صاحب بثينة من بني ربيعة ، وهو على فراش الموت ، يأمل رحمة ربِّه ومغفرته ، وقد علِق بها وعلِقت به منذ زمن الطفولة والصبا ، ومع ذلك صرَّح أنه ما أتى معها الكبيرة الممنوعة ، وإنما حدُّهما معاً ، كما وصف قائلاً : ( كان أكثر ما كان مني إليها ، أني كنت آخذ يدها أضعها على قلبي ، فأسْتريح إليها ) .
ولئن كان لهؤلاء العشَّاق التاريخيين ما يعْصمهم من السقطات الكبرى ؛ لبقيَّة أخلاق اجتماعيَّة قائمة ، وأعراف قبليَّة سائدة ، وشهامات شخصيَّة حاضرة ، ومعْتقدات إيمانيَّة ثابتة : فما تُراه قد بقيَ من العواصم المانعة لعشَّاق الأزمنة المتأخِّرة ؟! لا سيما في عصر الفضائيات المرْئية المنْتشرة ، والهواتف الذكيَّة المتنقِّلة ، والشبكات التواصليَّة النافذة ، فضلاً عمَّا فرضته طبيعة التمدُّن الحديث ، من وفرة النساء في كلِّ مكان ، حتى غدت المرأة في متناول أيدي اللامسين ، برغبتها أو بدونها ، حتى استمرأ مجتمع العصر الحديث نصب الحسناوات عبر وسائل الإعلام الرسميَّة والأهليَّة ، في نشرات إخباريَّة ، أو برامج ثقافيَّة ، أو أفلام دراميَّة ، مع ما يُصاحب هذه العروض الإعلاميَّة : من الألفاظ العارية ، والعواطف الملْتهبة ، والأجساد الناعمة ، والموسيقى الصاخبة ، مع حبْكة الإخراج الإعلامي الفائق ، التي تأسر الشيوخ الطاعنين ، فضلاً عن الشباب المراهقين ، في بيئة اجتماعيَّة ضعف فيها واعز الضمير ، وقلَّ فيها رادع الدين ، حتى كثر فيها تعاضد أهل الشرِّ ، وقلَّ فيها تعاون أهل الخير .
إن ما يحتاج إليه إنسان هذا الزمان للاستقامة على الدين ؛ من معاني التقوى القلبية ، وقوَّة المراقبة الإلهيَّة ، وطول العبادة الروحيَّة : أضعاف ما كان يحتاج إليه إنسان الزمن الأول للاستقامة ، فمن تراه يصمد لإغراء المرأة الإعلامية المنْتقاة من بين ألف امرأة متقدِّمة لهذه المهنة ، لا تقلِّ الواحدة منهنَّ في جمالها عن الأخرى إلا قليلاً ؟ ومن تراها من النساء تصمد لفتنة الرجل المليح المسْتحسن ، حين تمكِّن بصرها وسمعها منه ، إن أحدهم – في هذا الزمان - يحتاج للثبات على دينه ، بقدر ما وقع من الخشية والخوف لعبد الله بن المبارك ، وبشر الحافي ، ورابعة العدويَّة ، ومن ظنَّ من المعاصرين أنه لا يُفتن بهذه الصور الأخَّاذة ، فإن كان صادقاً فهو عنِّين ، لا يدري ما الخبر ، وإلا فهو كاذبٌ أفَّاك .