مقال شهر ذي الحجَّة 1437هـ
الشخصية الإدارية الهدَّامة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبينا وسيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وأزواجه ، وسلَّم تسليماً كثيراً ، أما بعد .. فإن لأسباب النهضة شروطاً كثيرة ، تفتقر بالضرورة إلى جهود كبيرة لتحقيقها ، ومن ثمَّ التمتُّع بنتائجها الطيبة ، والاستمتاع بمخْرجاتها المباركة .
ولئن كانت قائمة شروط النهضة طويلة ، وأسبابها شاقَّة عسيرة ، إلا أن المسئوليَّة الإدارية لعناصر النهضة ، وفريق الإدارة التنفيذيَّة ، والمؤهِّلات الشخصيَّة للقيادات الإداريَّة ، يأتي كلُّ ذلك في مقدِّمة شروط النهضة وأسبابها ؛ إذ لا بدَّ للطاقات البشريَّة ، وللموارد الاقتصاديَّة ، من إدارة ناجحة موفَّقة ، تحمل عبء تكاليف النهضة ، برؤية ثاقبة ، ونيَّة خالصة ، وعزيمة ماضية ؛ لأن أعباء النهضة وتكاليفها في الوطن العربي خاصَّة ، وفي الوطن الإسلامي عامَّة ، لا تتحمَّل مزيد أخطاء ، ولا تُطيق إضافة أعباء ، فما مُنيت به الأمة في تاريخها الحديث ، من إدارة التخلُّف وتدْويره ، على مدار سنوات التنمية الموهومة ، وأوهام التنمية المستدامة ، وما لحق الأمة في سعيها الحديث ، من الترهُّل الإداري المثقَل بالوعود ، والتعثر الاقتصادي المُحْبط للآمال ، الذي عمل - في مجموعه - على التأسيس للفساد ، في كلِّ مفاصل الحياة الحيويَّة ، ليبلغ جذور مقوِّمات النهضة وأصولها ، كلُّ ذلك قد بلغ مداه ومنتهاه ؛ فإن الأمة لا تطيق أكثر من هذا ، وهي واعية في هذا العصر بواقعها أكثر من أيِّ وقت مضى ؛ فإنه لم يعد للدِّعاية الإعلامية الرسميَّة دور فاعل في تشكيل عقليَّة المواطن ، وإبقائه ساكناً في خداع آمال التنمية الكاذبة ، قابعاً في أوهام النهضة الخادعة .
وفي هذا الخضمِّ المعْتم من التعثر والتقهقر ، تتولى النظم الإداريَّة المتهالكة كبْر إدارة منظومة التخلُّف وحمايتها ، فتأخذ على عاتقها مهمَّة وأد مشاريع التنمية في مهْدها ؛ فتقطع الطريق على تبنِّي قراراتها ، فإذا مضت بعض قراراتها نحو التنفيذ ، كانت مهمَّة منظومة التخلُّف - عند ذلك - إجْهاضها ، من خلال العوائق الماليَّة ، والكوابح والعُقد الإداريَّة ، فإذا قُدِّر لمشروع ما أن يبرز للوطن ، وقد تجاوز محاولات الإجهاض والإعاقة ، فإنه يلد - في العادة - مخْدجاً ناقصاً منْهكاً ، لم يبلغ بعد نموَّه الطبيعي ، بين مخالب الهدَّامين والمعوِّقين .
إن حجم التخلُّف الحضاري في المجتمعات الإسلامية ، المتعلِّق بالناحية الإداريَّة خاصَّة : شيء في غاية الضخامة والاتساع والعمق ؛ بحيث يستحيل استصْلاحه على المدى القريب ، فهو تراكم سنوات الترهُّل والتعثر ، التي أفضت إلى أصول بناء الشخصيَّة الإدارية ، حتى أضحت معول هدم لمقدَّرات المجتمع وإمكاناته ، وأداة فتْك لقوى التنمية وجهودها .
ولئن كانت الشخصيَّات الإدارية الهدامة ، يخلُص جميعها إلى غاية تهديم بنيان المجتمع ، وحبسه في دوائر أوهام التنمية ، وإيهامه بأحلام التقدُّم والنهضة ؛ فإنهم – مع ذلك – ليسوا على شاكلة واحد في مقاصدهم وأدواتهم وأساليبهم ، وحجم إجرامهم في حقِّ الأمة ، فهم في مجموعهم ينقسمون إلى قسمين ؛ أحدهما : مغْرض خبيث منافق ، ليس له همٌّ ولا غرضٌ إلا تخريب مقدَّرات الأمة ، وبعثرة جهودها وإمكاناتها ، بكلِّ ما أُوتيه من قوَّة ومكْر ، حتى إنه ليضع يده في يد كلِّ عدوٍّ للمسلمين ؛ ليُوقع الأمة في الحرج والعنت ، وهذا الصنف الإداري - لا شكَّ – أنه بأخْبث المنازل وأقبحها ، ما لم يتب من جرائمه ، وفق شروط التوبة الشرعية .
وأما القسم الثاني من الهدَّامين الإداريين ، فهم على ضرْبين ؛ أحدهما : مغفَّلٌ أبله ، يظنُّ أنه على شيء ، وليس على شيء ؛ يعبث به كلُّ ماكر خبيث ، فيسوقه في طرق التخريب الإداري ، وتعطيل مصالح المجتمع ، فتستهويه الشعارات البرَّاقة ، وتُعجبه العبارات الرنانة ، همُّه تحقيق مصالحه الشخصيَّة ، ولو كان ذلك على حساب المجتمع ، فهو كالطِّفل في يد خادمة رديئة ، يُحبُّها ويأمنها ويسكن إليها ، غير أن فيها عطبه وهلاكه من حيث لا يعلم .
وأما الضِرْب الثاني ، فهو الأعجب والأغرب في عالم الإداريين ؛ إذ ليس هو مغْرض ماكر ، ولا هو خبيث منافق ، ولا هو غبيٌّ قاصر ، وإنما هو شخصيَّة سوداوية المزاج ، مُفْرطةٌ في أحلام الكمال ، إلى حدِّ الكذب الصريح ، مُولعٌ بالدِّقة والإتقان إلى حدِّ الإسفاف ، مشغولٌ بالأجزاء الصغيرة ، والتفاصيل الدقيقة إلى درجة الوسْوسة ، فإن ضغط الوسواس القهري الذي يسيطر على شخصيَّته : يمنعه من الخوض في كثير من المشروعات الصالحة ، حتى إن جزئية تفصيليَّة - لا تقدِّم ولا تُؤخِّر – يمكن أن تعطِّل مشروعاً حيويًّا كاملاً !! دون أن يستشعر في نفسه فداحة الإجرام الإداري الذي يمارسه في حقِّ المجتمع .
إن حجم الوسواس القهري ، الذي ينتاب هذا النوع من الشخصيَّات الإداريَّة : يمكن أن يحطِّم قطاعات حيويَّة كاملة ، من أجل تسكين ما يجده في نفسه من أزِّ الوسواس القهري المؤرِّق ، الذي يسيطر على نفسه ، فلا يسمح له بالسكون أو الاستقرار ، حتى يستجيب لداعي نفسه السوداويَّة المقْهورة ، فتراه يغالي كأشدِّ ما يكون فيما لا نفع وراءه ، ولا فائدة فيه ، من الأعمال الإداريَّة ، والمظاهر الفنيَّة ، والإجراءات الشكليَّة .
والعجب كلُّ العجب ليس في هذه الشخصيَّة الإداريَّة المريضة ، التي تستحقُّ العطف والمواساة ؛ لشدَّة ما تعانيه من الدُّفوع النفسيَّة القاهرة ، التي لا تسمح لها بالانصراف عن داعية وسواس النفس ، وإنما ينكبُّ العجب في وليِّ نعْمته ، الذي ما فتئ يمكِّنه من رقاب الناس ومصالحهم ، وهو يعلم طبيعة فساد مزاجه ، وسعة إفساده الإداري ، ويعرف حجم الضجر الشعبي ، وشدَّة التذمُّر الاجتماعي ، ومع ذلك يأنس لوجوده ، ويرتاح لتمكينه ، فإذا سلِم هذا المتنفِّذ - ولي النعْمة - من إرادة الفساد في الباطن ؛ فإن اختياره لهذا النوع من الشخصيَّات الإداريَّة الهدامة يرجع إلى كون هذه الشخصيَّة – في العادة – أمينة لحقِّ رؤسائها ، لا يأتي من جهتها خيانة أو وشاية ، رغم أنها لا تطاوع وليَّ نعْمتها - بصورة دائمة - في كلِّ ما يُريده ، لا سيما إذا جاءت الأوامر متعارضة مع الحاجة إلى تسكين داعية الوسواس القهري المزعج ، ومع ذلك يتحمَّل رئيسُه معارضاته النفسيَّة ، في سبيل تحقيق مآربه الإداريَّة .
والغريب في هذا الخضم : أن هذا الموسْوس الهدَّام لا يبالي بحجم ما يُحدثه من الفساد الإداري ، ولا يلتفت لما يبلغه من الانتقاد ، فما يجده في نفسه من السوداويَّة ، وما يشعر به من قهر الوسواس : يوازي ، بل يفوق حجم الضغوط الخارجيَّة ، فعنده من قوى النفس العصابيَّة ، ما يمكِّنه من مواجهة كلِّ هذا ، فلا يهتم للنقد ، ولا يُنصت للنصيحة ، فهو ما يزال في موقع الخدمة ، يلبِّي – بصورة دائمة – نداء وليِّ نعْمته ، فلا يتأخَّر عن أيِّ منْصب إداريٍّ يُسْند إليه ، فمعاوله للهدم تصلح لكلِّ بناء عامر ، وتنفع لكلِّ مُنْجز قائم ، حتى غدت قطاعات إداريَّة كاملة تئنُّ متسخِّطة من هؤلاء وأمثالهم ، مما يضطرُّ المواطن – أحياناً - إلى اتخاذ الوسائط الاجتماعية لبلوغ حقِّه المشروع ، حتى أفتى من أفتى بجواز الرشوة في مثل هذه المضائق الإداريَّة ، ومع ذلك لا يلتفت الإداريُّ الظلُوم لأذيته للناس ، ولا يأْبه لشدَّة حنْقهم عليه ، حتى يغدو موضع سخطهم ولعْنتهم ، فإن الذي يتبرَّز في موراد الناس وسِكَكِهم يستجلب لعناتهم ، فكيف بمن يقطع على الناس مصالحهم ، ويُضيِّق عليهم أرزاقهم ، ويُلجئهم مضطَّرين إلى المسالك الرديئة ؟
إن كلَّ مخْلص مع ربه ، مشْفقٍ على أهله ومجتمعه : لا يرضى بمثل هذا الفتك الإداري بمقدَّرات الأمة ، سواء من المغرضين الإداريين ، أو من أصحاب المصالح الضيِّقة ، أو من السذج المغفَّلين ، أو من هؤلاء المتزمِّتين الموسْوسين ، إذ الكلُّ يصبُّ في إرهاق الأمة وعطبها ، سواء القاصد منهم والماكر ، أو الموسْوس منهم والمغفَّل .
إن مجتمعات اليوم أحوج ما تكون إلى الإداريِّ الحكيم ، أكثر بكثير من حاجتها إلى الإداري الحازم أو المتساهل ؛ لأن الحكيم – بما آتاه الله تعالى من الحكمة – يعرف متى يأخذ بالحزم في قراراته ، ومتى يلين فيها ؛ إذ الحكمة تقتضي وضع الشيء في مواضعه المناسبة له ، فليست هي الصرامة أو الصلف أو الشدَّة ، فهذه الصفات الجامدة تتعارض مع الحكمة الإدارية ، بل إن الإداريَّ الحكيم يتخذ قراره المؤلم وهو كارهٌ له ، وهو مشفق على صاحبه ، بعد أن يكون قد استنفذ ما يستطيع لتجنُّبه ، ولْيتخيَّل صاحب القرار – إن كان في قلبه صدق الإيمان – حجم الإثم الذي يلحقه ، حين يُفوِّت على صاحب حاجة مصلحة شرعيَّة كانت له ، أو مخرجاً إداريًّا حرَمه منه ؟
لذا فإن المشرِّع للنظم الإداريَّة ، لم يقصد قطُّ من وضعه لهذه المواد التنظيميَّة إلى التضييق على الناس ، أو إيقاعهم في الحرج ، بقدر ما قصد إلى راحتهم وحمايتهم ، ورعاية حقوقهم ومصالحهم ، ولهذا يُسيء بعض الإداريين فهم روح النظام ومراميه ، ظنًّا منهم أن الإكثار من القيود الإدارية ، ووضع مزيد من الاحتياطات الإجرائية ، من خلال التعاميم والتعليمات المقيِّدة : مقصد لواضعي مواد النظم الإدارية ، ولهذا تراهم يُكْثرون من المنع والإيقاف ، معتمدين في ذلك على فهومهم القاصرة ، وعلى صدورهم الضيِّقة ، في حين أن المشرِّع الإداري لم يرمِ إلى شيء من ذلك ؛ فإن النظم الإداريَّة ليست قوالب مصْمتة ، ولا عبوَّات مغلقة ، ولهذا كثيراً ما تُلْحق موادها التنظيمية بمذكِّرات تفسيريَّة : شارحة وموضِّحة ، حتى لا يُسيء المسئول فهمها ، ومع كلِّ ذلك تبقى للإداري الحكيم ساحة للاجتهاد ، وفسْحة للتأمُّل والنظر ، وفق ما تقتضيه مقامات الوقائع والأحوال ، فمهما بلغ المشرِّع الإداريُّ من الإتقان والاستيعاب للمواد الإدارية وتفريعاتها ، فلا بدَّ أن يفوته من تقدير الوقائع ، واستيعاب الأحوال ، ما يستلزم بالضرورة تدخُّل صاحب الصلاحيَّة بالاجتهاد في بعض المواقف ، لا سيما النادرة منها ، فيحملها على روح القانون ، وليس على منْطوقه فحسب ، وهذا هو - في الحقيقة - غرض المشرِّع من سنِّ القوانين ؛ إذ إن إنجاز العمل مع قصوره عن حدِّ الكمال خيرٌ من عدم إنجازه بالكليَّة ، فإن الحكْمتين : الشرعيَّة والمنطقية ، تقتضيان تحقيق أكثر المصالح ، حتى وإن فات بعضها أو تعسَّر ، والقاعدة الشرعية تنصُّ على أن : الميسور لا يسقط بالمعْسور ، ومن المعلوم أنه ما لا يُدرك كلُّه لا يُترك جلُّه ، وإنما يميل الإداريُّ الضعيف إلى سلامة نفسه ، وحماية ساحته ، بتحميل أصحاب الحاجات سوء فهمه ، وضعف رأيه ، ورعونة شخصيَّته ، وأما الساديُّ من الإداريين ، فإنه يحقِّق متعته النفسيَّة بممارسة عدوانه بالنظام على الناس ، فكلاهما في خندق واحد ضدَّ مصالح المجتمع .
ولئن كان المخرِّب الإداريُّ الماكر لن يفوت الله تعالى ؛ فإنه لا يجوز – بحال من الأحوال – لغبيٍّ أو موسوس أو ضعيف : أن يقود قطاعاً إداريًّا بحجَّة أنه هناك ؛ فإن وجود الشخص في موضع إداري مهم ، يتأمَّر ويترأَّس من خلاله : لا يُعدُّ دليلاً على صلاحه ، بقدر ما هو ابتلاء له وفتنة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر – رضي الله عنه – حين سأله الولاية : ( يا أبا ذر إنك ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزْيٌ وندامة ، إلا من أخذها بحقِّها ، وأدَّى الذي عليه فيها ) ، فهؤلاء الضعفاء – سواء المغفَّلين منهم أو الموسْوسين – كلاهما لا يصلح للولاية : صغيرة كانت أو كبيرة ، فلو نجح أحدهم في إدارة بيته الشخصيِّ الصغير لكان في حقِّه كثير ، فكيف بمصالح الناس الواسعة ، وقد جاء التحذير الشديد في الحديث : ( ما من رجل يلي أمر عشرة من المسلمين فصاعداً ، إلا جاء يوم القيامة يدُه مغْلولة إلى عنقه ، فكَّه برُّه ، أو أوْبقه إثمه ) ، فتصدُّر الرجل في منصبه لا يُعدُّ حجَّة شرعيَّة تبرِّر فواحشه الإداريَّة ، فإما أن يقوم بحقِّها ، بما يحقِّق مصالح المجتمع ، وفق الموازنات الشرعيَّة الذكيَّة بين المصالح والمفاسد ، وإما أن يمضي خلف الصفوف ، مستتراً بنواقصه الشخصيَّة وعيوبه ، فلا تلْحقه حينئذٍ مذمَّةٌ شرعية ، ولا معْتبةٌ اجتماعية ، أما وقد تصدَّر بضعفه وقصوره وعيوبه ، فلن يسامحه الناس ، وحسابه على الله تعالى .