تفْتيتُ الشخصيَّة الإنسانيَّة

مقال شهر رمضان 1437هـ

تفْتيتُ الشخصيَّة الإنسانيَّة

        الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيِّدنا رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد .. فإن الشخصية الإنسانية ، بطبيعتها الفطرية ، التي خلقها الله تعالى عليها : متعددة الجوانب ، فتشمل : الجانب الإيماني ، والجانب الروحي ، والجانب الأخلاقي ، والجانب الاجتماعي ، والجانب العقلي ، والجانب النفسي ، والجانب الجنسي ، وكلُّ جانب من هذه الجوانب - المكوِّنة للشخصية الإنسانية - في حاجة إلى تربية وتهذيب ورعاية ، حتى ينمو الناشئ نمواً سوياً متكاملاً ، ويتناغم منسجماً مع باقي جوانب الشخصيَّته ، وفق منهج التربية الإسلامية ، المرسوم في وحي الله تعالى المبارك ، فبقدر ما يقصِّر منهج التربية في استهداف النمو الشامل للإنسان من جميع جوانب شخصيَّته ؛ فإن قدراً من النقص والقصور لا بدَّ أن ينال بناء هذه الشخصية ، فيلحقها من التشوُّه والضمور والشذوذ ، بقدر حجم التقصير الذي انتاب منهج التربية .

         والمتأمِّل في الشخصيَّة الإنسانية لا يجدها ماديَّة مصْمَتة لا تداخلها الروحية ، ولا هي روحية سامية لا تشوبها المادة ، ولا هي أيضاً عقليَّة صرْفة لا تخالطها العاطفة ، ولا هي عاطفية مائجة لا يحكمها منطق ، ولا هي أيضاً أخلاقيَّة راقية لا تستذلُّها معصية ، ولا هي ماردة شاردة لا يُقيُّدها مبدأ ولا قيمة ، بل هي كيان شامل من كلِّ هذه الجوانب والشعب ، صنعها الله تعالى لتكون مخلوقاً فريداً لا يماثل باقي المخلوقات ، فيكون منهم الولي الصالح ، ويكون منهم الشقيُّ الكافر ، وبينهما من مراتب الرقي والهبوط ، والصعود والنزول ، ما يشمل كلَّ البشر ، بقدر ما أتي المكلَّف من الفطنة والإرادة ، والتوفيق الربَّاني .

         غير أنه قد يحلو لبعض الناس أن يعظِّم جانباً من جوانب الشخصية على الأخرى ، وربما اندفع بعضهم ليختصر الإنسان بكامله في جانب من جوانب شخصيَّته ، باعتبار ذلك الجانب هو الأهم والأعظم في نظره ، فلو صلح لكفى وأغنى عن باقي جوانب الشخصية ؛ فمنهم من يحصر الإنسان في جانبه العقلي ، باعتبار العقل فريدة إنسانية جليلة ، به يصلح باقي كيان الإنسان ويستقيم ، فلو صحَّ هذا الاعتبار لكان الفلاسفة العقلانيُّون أفضل الناس وأحسنهم ، غير أن واقع تاريخ فلاسفة الإسلام لا يشهد لجلِّهم بكثير خير ، فضلاً عن أن يكونوا الأفضل أو الأحسن ، فمثالب أكثرهم في كتب التراجم مسجَّلة محفوظة .

          ولعلَّ من يحصر الإنسان في جانبه الروحي لا يبعد هو الآخر عن الظنِّ الخاطئ ، فقد أُخذت مآخذ عديدة على كثير من متصوِّفة المسلمين ، ممن أفرطوا بالانشغال بتطبيق مناهج تعبُّديَّة ، لا توافق في كثير من الأحيان نهج السنة ، حتى وقعت طوائف منهم فيما يشينها ، وخرج منهم شيوخ طُرُقٍ كبار عن سبيل الهدى ، فعَلِقت بتاريخهم سقطات فكريَّة وسلوكيَّة لا يقبلها الشرع الحنيف ، حتى اندرج تحت عنوان التصوُّف باطل كثير ، فما كانت الروحيَّة وحدها سبيلهم لأفضل المراتب الإنسانية .

          وليس ببعيد عن هذين مَن ظنَّ أن الجانب الخُلقي هو الأهم في بناء الشخصيَّة الإنسانية السويَّة ، فإذا انتظم الإنسان بنهج الأخلاق الإسلامية ، وتقيَّد بالآداب والقيم المرعيَّة ؛ فإنه – في نظرهم – قد استكمل ما عليه في بناء ذاته الاجتماعيَّة ، فكلُّ جوانب الشخصيَّة الأخرى تأتي – في تصوُّرهم - تبعاً للجانب الخلقي ، وثمرة ناتجة عنه ، ومع ذلك فقد أغفل هؤلاء - في غلوِّهم الخلقي - العنصر الأهم والأكبر ، والأداة الأقوى والأعظم ، التي تحرِّك الإنسان من داخله نحو العمل بالالتزامات الخُلقية ، وتُلحُّ عليه من باطنه بالتقيُّد بالآداب والقيم الاجتماعية المرْعيَّة ، إنها العقيدة الإسلامية ، المعبَّر عنها بالجانب الإيماني ؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يلتزم بموجبات الأخلاق دون أن يقوم عليه واعز قويُّ من داخله أو من خارجه ، فلا يستطيع مخالفته ومعاندته ، فالسلطة الممثلة في الجانب الإيماني ، أو السلطة الممثلة في الجانب الاجتماعي : تفرض كلٌّ منهما على أعضاء المجتمع مراسيمها السلوكيَّة ، وتحكم تصرُّفاتهم بضوابطها الاجتماعيَّة ، فبكلا السلْطتين يصلح حال الناس ويستقيم على الطريقة أمرهم .

         غير أن سلطة الواعز الداخلي عند الإنسان طبيعتها معنويَّة ، ترتبط بالمقاصد والنيَّات ، وأما سلطة الواعز الخارجي عنده فهي ماديَّة الطبيعة والنشْأة ، لا تحفِّزها الإرادات الخالصة ، وإنما تعمل بالمصالح القاصرة والضيِّقة ، فمتى غاب الرقيب السلْطوي عن ساحة التفاعل الاجتماعي : انخفضت – بقدر درجة غيابه - دوافع التزامات المكلَّف الأخلاقية ، في حين لا يغيب أبداً عنفوان سلطة الواعز الداخلي عن المكلَّف ما دام يقظاً منْتبهاً ، بل تبقى متوقِّدة حيَّة في ضميره ، تُلحُّ عليه دوْماً بعهودها الأدبيَّة ، وتذكِّره أبداً بمواثيقها الأخلاقيَّة ، حتى إنها من شدَّة قوَّتها - عند بعض المكلَّفين – وحجم حضورها في ذهنه ، وامتلاء نفسه بها : لا يجرؤ على مخالفتها ولو لمرَّة واحدة ، فإذا وقعت منه سقْطة بشريَّة ، في ساعة سهْوَة سلوكيَّة ، فخالف ميثاقه الأخلاقي ؛ فإن تأنيب الضمير ، وحُرْقة النفس ، وألم الزَّلَّة : كافٍّ لتأديب النفس الآثمة ، وكسر الذات المخطئة ، فلا تسكن الشخصيَّة بعد الجرح ، ولا ينجبر كسرها ، إلا بغسل حوبتها ، وإزالة كدَرها ، بالتوبة الصادقة النصوح .

         وعلى الرغم من حصول المغفرة الأكيدة بالتوبة الصادقة الحميمة ؛ فإن بعض التائبين يحصل لهم من شدَّة مقْت الذات الآثمة ، واحتقار النفس المخطئة ، ما لا يكتفون معه بالتوبة النصوح ، فما تزال نفس أحدهم مضطربة لا تستقر ، وضميره مكلوماً لا ينْدَمِل ، وذهنه سجين الذنب لا ينسى ، فيبقى على حاله حتى تحصل له الطهارة الكاملة من آثار حدَث الخطيئة ، ولو أدَّى ذلك إلى إزهاق النفس بالحدِّ الشرعي ، كما حصل زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع ماعز والمرأة الغامدية ، فما استطاعا تسكين نفسيهما المحترقتيْن إلا بتحطيم الذات بأقسى الحدود الشرعية ، وهذا لا شكَّ أثر واضح لحضور العقيدة وآثارها في هذا المشهد الاجتماعي .

        ولهذا يعوِّل أنصار الجانب الإيماني ويراهنون : على أن إصلاح العقيدة ، وإحيائها في نفوس المكلَّفين : هو الأساس في إصلاح سائر جوانب الشخصيَّة الإنسانيَّة ، فالعقيدة الإيمانيَّة هي سفينة النجاة في الآخرة ، وقاعدة السلوك في الدنيا ، وعليها مدار كلِّ أحوال الإنسان وتقلُّباته ، فكلُّ جوانب الشخصيَّة الأخرى تبعاً لصلاح العقيدة أو فسادها .

          وعلى الرغم من وجاهة هذا الرأي ؛ إذ إن الإيمان الصحيح هو شرط القبول عند الله تعالى ، وعليه مُعَوَّل النجاة من الخلد في نار الجحيم ، غير أن طائفة من أهل التوحيد ، ممن صدقوا في إيمانهم ، وأدَّوا الفرائض التعبُّديَّة الواجبة ، وربما ألحقوها بكثير من السنن والمستحبَّات ، ومع ذلك تمسَّهم النار لقبائح سلوكيَّة وقعوا فيها ، لم تسبق لهم فيها توبة صادقة ماحِية ؛ فقد حكى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أناس من المسلمين ، يأتون يوم القيامة بأعمال صالحة كثيرة كالجبال في أحجامها ، ناصعة البياض في ألوانها ، ومع ذلك لا تحجبهم عن مسِّ النار ؛ بسبب أعمال سلوكيَّة انتهكوها ، وقبائح أخلاقية فعلوها ، فلم يرافق مسلك العبادة الصالحة عندهم سلوك صالح قويم ، يعكس على الجوارح صلاح القلب بالعقيدة والعبادة ؛ فإنه لا بدَّ للقلب – بما وقر فيه - من سلطة على عمل الجوارح ، فهي أدوات الترجمة عمَّا تفيض به القلوب من الخير أو الشر .

         وبناء عليه فإن العقيدة - بما تحمله من الإيمان والمعتقدات - هي صورة الإنسان الباطنة ؛ والأخلاق - بما تثيره من المظاهر السلوكية - هي صورة الإنسان الظاهرة ، فالإنسان ظاهر وباطن ؛ باطنٌ تمثله العقيدة والإيمان ، وظاهر تمثله الأخلاق والسلوك ، والشرع الحنيف جاء بأهمية الربط الوثيق بين باطن الإنسان وظاهره ، وضرورةِ التناغم بينهما بصورة تكاملية وتوافقية ، يقول الله تعالى في موالاة الكفَّار : ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...) ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر : فلا يشرب الخمر ، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يُشرب عليها الخمر ) ، وقال أيضاً : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت...) .

          وهكذا الشرع الحنيف - في الكتاب والسنة - يربط بين العقيدة الإيمانيَّة ، وبين السلوك الخلقي ، ويرفض رفضاً باتًّا الفصل بينهما ، تحت أية علَّة أو مسوِّغ ؛ كاعتقاد أفضليَّة العقيدة على الخُلُق ، فقد جعل الشارع الحكيم الخلق أثقل شيء في الميزان ، وفي الحديث : ( مَا من شيء أثقَل في الميزان من حُسْن الخلُق ) ، فرغم أهميَّة العقيدة للنجاة يوم القيامة : ينبِّه رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين إلى حسن الخلق ، فلا يتركهم يُعوِّلون على صحَّة معتقداتهم للسلامة من النار ، فلا يكترثون بسقطات الأخلاق ، ولا يهتمُّون بهفوات السلوك ، بل يجعلون كلَّ ذلك نصب أعينهم ، فيُضيفون إلى العقيدة خُلُقاً حسناً ، يثقِّلون به موازينهم ، ويرفعون به درجاتهم ، فما زال الصالحون الأكياس على حذر من صغار الذنوب قبل كبارها ، وعلى خوف من دقائق الهفوات قبل طوامِّها ، فمَن استصغر الصغيرة وقع في الكبيرة ، ومن توقَّى على نفسه من الدقيقة : حُفظ بإذن الله تعالى من العظيمة . 

          وأنبياء الله الكرام - عليهم الصلاة والسلام – رغم اختلافهم في بعض التشريعات المنزَّلة ، إلا أنهم اتحدوا في المضمونين العقدي والأخلاقي ؛ فما كانت الخيانة قطُّ يوماً من الدهر من المحامد ، ولا كانت الأمانة قطُّ من القبائح ، ولا كان الإحسان يوماً من الرذائل ، فالترادف العقدي والأخلاقي بقي متوافقاً ومترافقاً في جميع الرسائل الربانيَّة ، وهو في الشريعة المحمَّديَّة الخاتمة أكثر ترابطاً وتماسكاً وتوافقاً وشمولاً ، فقد يعذب الله تعالى بالنار من انتهك حرمة حيوان بغير حقٍّ ، أو انتزع شجرة طيبة نافعة لغير مصلحة ، فضلاً عمَّا هو فوق ذلك من المظالم والجرائم والقبائح ، التي تقع بين الناس .

          ولهذا لا يستغني صاحب العقيدة الصحيحة – مهما بلغ - عن الدرس الأخلاقي ، ولا يستغني أيضاً عن الجانب الروحي والتعبُّدي ، وعن الجانب العقلي والفكري ، ولا يستغني كلُّ واحد منهم عن حاجته إلى الصحَّة الجسميَّة ، وافتقاره إلى الاتزان النفسي ، فالكلُّ لا بدَّ أن يحظى بنصيبه الوافر من جميع جوانب الشخصيَّة ؛ ليبلغ درجة الكمال البشري ، التي قدَّرها الله تعالى له ، فواجب المكلَّف إفراغ وسعه في بلوغ قدَرِه المقدَّر ، وفق تكاليف الشرع ، فلا يُغلِّب جانباً من جوانب شخصيَّته على آخر ؛ ليحطَّ عن كاهله طائفة من تكاليف الشرع بحجَّة الأهميَّة ، فتتفتَّت الشخصيَّة الإنسانية إلى شعب متنافرة ، ويتشظَّى كيانها إلى أوصال وقطع ، فتبدو متجزِّئة متناثرة ، لا تناغم بينها ولا توافق .

          إن مما اتفق عليه المسلمون : أن جانب الإيمان مقدَّمٌ على جميع جوانب الشخصيَّة الأخرى ، وهو أوَّل خطوات التكليف الشرعي ، في مقابل اتفاقهم أيضاً على أن الله تعالى قد يحاسب بعض أهل التوحيد على مثاقيل الذر ، فيحاسبهم على صغار ذنوبهم قبل كِبَارها ، إضافة إلى ما يلقاه كثير من الباحثين المتعمِّقين في الشأن العقدي من الوحشة العلمية ، والجفْوة البحثيَّة ، المؤدِّية إلى الاستيحاش النفسي ، والجفاف الروحي ، من فرط تناول أقوال الفرق المتنازعة ، وآراء المذاهب الفكرية المتصارعة ، التي تُرهق الذهن – في كثير من الأحيان – بما لا طائل وراءه ، إضافة إلى خطر ما قد تُحدثه هذه الآراء المتنافرة الموحشة ، والأقوال الشاذة الغريبة ، من الشبَه العقديَّة والفكريَّة في نفوس بعض المتصدِّرين لها ، إلى جانب ما قد يقع لبعض طلاب العلم - في هذا المجال الشائك – من الاندفاع بجرْأة نحو التكفير والتفسيق والتبديع ، التي كثيراً ما يثيرها الاطلاع على فواحش القوم العقديَّة ، مما يبعث الغيْرة في نفوس المتحمِّسين للدين ، فينطلقون بحماسة مفرطة للدفاع عنه .  

           وأمام هذا الواقع – الواسع والمتنوِّع - يحتاج الجميع إلى ما يرقِّق القلوب ، ويُلطِّف الأرواح ، مع ما يُصلح الأخلاق ، ويضبط السلوك ، إضافة إلى ما يحفظ الإيمان ، ويرسِّخ العقيدة ، إلى جانب الحاجة إلى ما يُنير العقل ، ويُنضج الفكر ، فمن مجموع هذه الجوانب : الإيمانية ، والروحيَّة ، والأخلاقية ، والاجتماعيَّة ، والعقليَّة ، والنفسية : يتكوَّن الإنسان المكرَّم ، الذي خلقه الله تعالى بيده ، وأسجد له ملائكته ، وفضَّله على سائر مخلوقاته تفضيلاً .