معلومات
تاريخ الإضافة: 2/7/1437
عدد القراء: 2476
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

مقال شهر رجب 1437هـ

الربيع العربي

الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه ، والصلاة والسلام على النبي الكريم ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد ..

يعيش المسلمون مرحلة عجيبة وعصيبة من تاريخ أمتنا الإسلاميَّة ، فأما العجب فيها ففي ثوراتها ، التي جابت العديد من الأمصار العربية ، حتى اصطلح الإعلاميُّون على تسميتها : " الربيع العربي " ، باعتبار أنها تحمل للمجتمعات المنتفضة شيئاً من الانفراج السياسي المرتقب ، والحريَّة الاجتماعيَّة المنشودة .

وأما في كونها مرحلة عصيبة ، فيظهر ذلك في حجم المعاناة والآلام والجراح ، التي منيت بها شعوب الربيع العربي ، وما لحقهم من مشاعر الإحباط واليأس ، من جراء تعثر الآمال ، وحجم الإخفاقات والتراجع .

ولئن كان المحلِّلون السياسيُّون قد تنازعوا في تقويم هذه الانتفاضات الشعبية العربية ، فإن الشكَّ لا يراود الشرفاء في أنها كانت سبباً أساساً في كشف حقائق سياسية وعسكرية واقتصادية خطيرة ، ما كان لها أن تظهر جليَّة للعيان ، لو لا هذا الحراك الشعبي العارم ، وما واجهه من مقاومة ظالمة جائرة ، فقد كشف هذا الصراع عن حجم الفساد الفكري والخلقي والسلوكي ، لدى كثير من السياسيين وأعوانهم ، حتى غدت الثورات العربية أداة فضح لأنظمة سياسية مستبدَّة ، ولمجلس الأمن الدولي ، ولشخصيَّات عربيَّة كانت مرموقة ، عاشت عقوداً من الزمان مستترة بستار الدعاية الخادعة ، فما إن فوجئت بالحراك الشعبي العارم ، حتى كشفت عن حقيقة نفسها المرعبة ؛ فقد كشفت عن نفوس ممعنة في القسوة والفساد ، وألسنة مغرقة في الكذب والخداع .

وإن من أهمِّ ما أسفرت عنه هذه الأحداث المثيرة : حجم عداء كثير من الرافضة لأهل السنة ، رغم الانتشار الثقافي ، والوعي السياسي ، والتقدُّم الحضاري ، والجوار الاجتماعي ، ومع ذلك بقي هؤلاء على أحقادهم الماضية ، وثاراتهم السابقة ، ما زادها طول الزمان إلا عمقاً وقسوة .

لقد استحضر هؤلاء عمقهم الفارسي في ثوب التشيُّع ، فاستغلوا سفهاء المذهب بالترغيب والترهيب ، وحرَّكوا بالتآمر الأقليات الشيعيَّة ، التي عاشت دهوراً من الزمان آمنة على نفسها ، مستأمَنة على جيرانها ، فكان من جراء ذلك أن لحق كثيراً من أهل السنة في الشام والعراق واليمن ما يُخرس اللسان عن وصفه ، ويُعْجز القلم عن التعبير عنه ، من صور الفتك والتدمير والقتل والتنكيل ، التي لا يُعرف لبشاعتها وعنفها سابق في التاريخ الإنساني .

وفي ظلِّ هذا الطغيان الرافضي المتوحِّش ، والتآمر العالمي المتصهْين : اندفعت فئات من شباب أهل السنة نحو التطرف والغلو ، ومقابلة التطرف الشيعي بتطرُّف سنِّي ؛ فإن الفعل لابد له من ردِّ فعل ؛ إذ لا يمكن أن يبقى أهل السنة محاصرين بين طوائف التطرف الشيعي ، وبين تآمر النظام الدولي ، فتفاقمت - من جراء ذلك - المسألة الطائفيَّة كأشدِّ ما تكون ، وأخذ كلُّ جانب يزكي نارها بما لديه من القوة العسكرية والبيانيَّة ، فعاشت مجتمعات عربية مآسي الافتراق والتناحر ، حتى هامت ملايين من المسلمين على وجوههم ، لا يجدون ملجأ يأمنون فيه على نفوسهم إلا خارج أوطانهم ، وعمَّ الأمة خطاب الكراهيَّة في وسائل الإعلام ، في أداء إعلامي غير مسبوق .

ولم يكن عدوان اليهود بمعزل عن هذه الأحداث ، فقد تكرر عدوانهم على مدينة غزة الصغيرة أكثر من مرة خلال هذه الفترة ، فكان العجب في صمود أهلها وثباتهم ، والْتفافهم حول المقاومة - خيارهم الوحيد - في ظلِّ تعاطف عربي وإسلامي واسع ، إلا أن الأعجب في العدوان الإسرائيلي الأخير عام 2014م هو الردُّ الفلسطيني الموجع غير المسبوق ، الذي طالت فيه صواريخ المقاومة الباسلة غالب المدن الإسرائيلية ، مما دفعهم للكفِّ عن عدوانهم صاغرين منهزمين ، غير أن العجب كلَّ العجب في حال بعض العرب ، فقد تغيَّر موقفهم من صمود غزة هذه المرَّة ، حيث انقلبت بعض الأنظمة السياسية رأساً على عقب ، مغتاظة من الصمود الفلسطيني المشرِّف ، إلى درجة التآمر والكيد والتحريض ، بصورة جليَّة لا مواربة فيها ، فانكشف للعيان حجم المؤامرة المحليَّة والإقليميَّة والدوليَّة على القضيَّة الفلسطينيَّة .

وأما العلمانيُّون والليبراليُّون فلم يكونوا بمنأى عن هذه الصراعات والأحداث خلال هذه الفترة الزمنية ، فقد ازدهرت أجواؤهم في البلاد الإسلامية المحافظة ، وعلا شأنهم كأحسن ما يكون ، ضمن سقف عالٍ جداً من الحريَّة الإعلامية ، فما كان يُرمَّز له من الأفكار الحادَّة في مرحلة ماضية ، فلا يفهمه إلا الخواص ، أصبح - في هذه الحقبة الزمنية - صريحاً بلا مواربة ، يستوعبه العامة بوضوح لا مزيد عليه ، فغلوا هم أيضاً غاية الغلو فيما أتيح لهم ، وأخذوا يصفُّون حساباتهم مع خصومهم من الإسلاميين بلا هوادة ، مستغلِّين أجواء الانفتاح الإعلامي ، الذي عمَّ بلاد المسلمين .

ولما قامت الثورات العربية بعفويَّتها : وضعت العلمانيين وإخوانهم من الليبراليين على المحكِّ الأخلاقي الفاضح ، فكان التلعثم والتردد والاضطراب مصير جماهيرهم ، فما لبث أكثرهم طويلاً حتى لبسوا ثياب العسكر ، وامتطوا آليَّاتهم ، واصطفوا في خنادقهم ، ثم انقلبوا مع المنقلبين ، فباعوا أغلى ما كانوا يتغنَّون به من الحريَّة والديمقراطيَّة والمصداقيَّة عند أوَّل اختبار للمبادئ ، فكانت فضيحتهم الأخلاقية مدوِّية ، يصعب عليهم التعافي منها ، فأيُّ مسوِّغ يجيز لبعض الجيوش العربية أن تحوِّل فوَّهات مدافعها إلى شعوبها ؟ إن تسويغ مثل هذه الشناعات لا يأتي إلا عن نفس بشريَّة منحطَّة ، وشخصيَّة بلغت المنتهى في الفساد والإفساد .

وهكذا الفتن دائماً تكشف الخبايا ، وتزيح الستور ، وتنقي المعادن ، فما يزداد المبطلون بها إلا خزياً إلى خزيهم ، وعاراً إلى عارهم ، وأما أهل الحقِّ فإن الفتن في حقِّهم تمحيص يزكِّي نفوسهم ، ويجلِّي نظرهم ، ويفتح آفاقهم ، ثم هو يُعلي عند ربِّ العالمين درجاتهم .