مقال شهر جمادى الأولى 1437هـ
العبوديَّة نهج المكلَّفين
الحمد لله الذي خلق فسوَّى ، والذي قدَّر فهدى ، أحمده وأستعينه وأستغفره ، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، المصطفى من الخلق ، والمختار من البشر ، والسيِّد من الناس ، كان أعبد الناس كما أراد له ربه عزَّ وجلَّ ، لم يأت نبيٌّ بأفضل من نهجه ، ولا بلغ وليٌّ أعلى من قدره ، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فإن الغاية من خلق الإنسان هي تحقيق العبودية الخالصة لله تعالى ، فليس لله - الحكيم العليم – غرض من إيجاد الإنسان على الأرض إلا أن يقوم بمسئوليَّة العبادة ، وَفق مناهج وضعها – سبحانه وتعالى – لعباده : اعتقاديَّة وعمليَّة ، مفاهيميَّة وسلوكيَّة ، بحيث تنتظم مناهج العبادة الربانيَّة كلَّ مناشط الإنسان المختلفة والمتنوِّعة ، للحياة الدنيا والآخرة ، فلا يشذ منشط من مناشط المكلَّفين – أياً كان – إلا ويندرج منضبطاً ضمن موضعه من منهج العبادة في التشريع الحنيف .
ولهذا فإن العبوديَّة ليست مهمة خارج قدرات الإنسان ، أو بعيدة عن طبيعته البشريَّة ، أو شاذة عن أنواع اهتماماته النفسيَّة والروحيَّة ؛ بل هي فطرة إنسانية ضرورية ، ماضية في الخليقة على العموم ، ومستمرَّة معهم على الدوام ؛ إذ لا بدَّ للإنسان أن يتعبَّد ويتألَّهَ شيئاً ما ؛ فيخضع متذلِّلاً له ، ويلجأ مفتقراً إليه ، عائذاً ولائذاً به ، منساقاً في ذلك بدافع فطريٍّ ملحٍّ ، وحاجة باطنة غالبة ، فهو – تحت وطأة طبيعته الفطريَّة هذه - إما أن يعبد الإله الحق - سبحانه وتعالى - المستحقِّ وحده للعبادة ، وإما أن يعبد آلهة أخرى ؛ فما زالت طوائف من البشر منذ القديم ، وعبر أحقاب زمانيَّة متتابعة : تتوه عن نهج العبادة الحقَّة ، فتضلُّ عن الإله الحقِّ ، المستحقِّ للعبادة ، حتى إن بعضهم – من شدَّة فساد عقله - يضلُّ تائهاً فيعبد – خاضعاً متذللاً – بعض مكوِّنات البيئة الفطريَّة من حوله ، مما يَعدُّه العقلاء هوساً أو جنوناً ، مما لا يستسيغه عقل ، ولا يقبله منطق ، فقد ينحطُّ الضَّال من الناس إلى أقبح مهاوي الإنسانيَّة ، فيعبد شجراً معيَّناً ، أو حجراً محدَّداً ، أو لهباً موقداً ، أو ماء جارياً ، ونحوها مما هو متاح في البيئة من حوله ، فتصدر عنه العبادة متوجِّهاً بها نحو هذه الجمادات المخلوقة ، ضمن سلوكيَّات وطقوس غريبة وشاذة ، لا يدُّل عليها شرع صحيح ، ولا يقرُّها عقل صريح .
وربما تمادى به التيه العبادي ، حتى يرتكس في حمأة الضلال العقدي ، والضياع الفكري ، والفساد المزاجي ، الذي ليس بعده أحطُّ منه ولا أرذل ؛ فيعبد مقدِّساً دابَّة مما ملَّكه الله تعالى إيَّاها لميزة يراها فيها ، أو يعظِّم حيواناً لخاصيَّة القوَّة فيه ؛ فما زالت قوائم من الوحوش والسنُّوريَّات والجوارح موضع إلْهام وإجلال وإخبات لكثير من الشعوب التائهة عن الحقِّ ؛ فتجد في اتخاذ رموز هذه الحيوانات وهمَ القوَّة والنصر والتمكين ، فتقبع مستسلمة لإيحاء الرمز في نفسها ، منقادة لدلالاته الروحيَّة والعاطفيَّة والاجتماعيَّة ، باعتبارها تعاويذ للحماية والحفظ ، وتمائم للتحصين والمنعة ، وشارات للفوز والظفَر .
غير أن أحطَّ هؤلاء مكاناً ، وأقبحهم منزلاً ، وأسوأهم رأياً ، وأضلَّهم سبيلاً : من يتَّخذ من الحشرات المهملة ، أو الزواحف القذرة ، أو القوارض النجسة ، ونحوها - مما يستقذره الأسوياء ويستقبحونه من سواقط البيئة - آلهة للتقديس والخضوع والتنسُّك ، حتى قال عنهم المؤرخ الأمريكي ، والخبير التاريخي ول ديورانت ، في كتابه الكبير ( قصَّة الحضارة ) متعجِّباً من بعض مسالكهم التعبُّديَّة : ( ما من حيوان في البيئة إلا كان في يوم من الأيام مقدَّساً عند أمة من الأمم ؛ باعتباره إلهاً ) !! وهذا لعمر الله من عجائب بني آدم ، حين يفقد العقل مهمَّته الأصيلة ، ويتوه عن غرضه الأساس ، فيتعطَّل عن الاستجابة لأسهل مواقف اختباره ، وينشلُّ عن التمييز لأيسر مسالك اختياره ، فيتعثر في الواطئ من الطريق ، ويغرق في الضحل من الماء ، فيختار الضَّال التعيس - للتألُّه والتقديس والتعظيم - ما كان مسخَّراً له – بفضل الله تعالى – من أصل الأمر : ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ...) (45/13) ، فلا يميِّز بين الخالق والمخلوق ، ولا يفرِّق بين الربِّ والمرْبوب ، حتى يبلغ به الانحطاط العقلي إلى التسوية بينهما ، في مشهد بائس منكر بغيض : ( الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ ) (6/1) .
إن الاهتداء إلى سبيل الحق في نهج العبادة يفتقر بالضرورة إلى الوحي المنزَّل ؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يجتهد مبتدعاً لنفسه نهجاً صائباً للتعبُّد والتنسُّك ، على نحو ما يبتدعه في طرائق عمارة الأرض وأساليبها ، فالبون بينهما شاسع ، والهوَّة بين الطرفين في غاية الاتساع ؛ فما زال الإنسان - عبر تاريخه الطويل – منْجزاً في مجالات العمارة ، متفوِّقاً في طرقها وأساليبها ، فما من عصر من العصور البشريَّة ، إلا ويشهد للإنسان بقدر من الإنجاز الحضاري المبدع ، الذي يثبت تفوُّق الإنسان وقدراته العالية في التعامل مع البيئة الماديَّة من حوله ، ضمن ما وضعه الله تعالى من السنن الكونيَّة المحكمة .
غير أن هذا التفوق المادي في التعامل مع البيئة الماديَّة لم يرافقه تفوق روحي إيماني في التعامل مع المعتقدات والعبادات ؛ فقبعت طوائف من البشر في انحطاط روحيٍّ جارف ، انحطَّ بهم إلى دركات سحيقة من الضلال والضياع ، مما لا يتناسب مطلقاً مع حجم التقدُّم المادي الذي أحرزوه في إثارة الأرض وعمارتها ؛ فلا يجد الغرب المعاصر غضاضة في الجمع بين غزو الفضاء وعبادة أشخاص من البشر ، باعتبارهم آلهة تُعبد ، ولا يجد الهندوسي المعاصر تعارضاً بين الإتقان الإلكتروني ، وبين عبادة البقر ، حتى إن منهم من لا يجد فارقاً بين تقديس الربِّ الخالق وتقديس الفئران !!
وقد سبق هؤلاء أقوام من البشر ، حكى القرآن الكريم أخبار طوائف منهم : أنجزوا في بعض ميادين العمارة ما لم يبلغ مثله المعاصرون ، رغم كلِّ ما أُوتُوه من فتوح المعارف الحديثة ؛ فقد قال الله تعالى : ( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (30/9) .
وحكى القرآن عن قوم عاد ، وما فُتح عليهم من القوَّة والتمكين ، حتى إنهم من فرط عتوِّهم ، وعظيم بطشهم ، وعمق غفلتهم ، وغرورهم بأنفسهم : يتنادون فيما بينهم مصرِّحين ومعْلنين : (...مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً...) (41/15) ؛ فقد كانوا يُنشئون الحصون العاتية ، ويبنون البيوت الفارهة ، حتى إنهم من شدَّة تمكُّنهم الحضاري ، في سهولة التعامل مع صخر الجبال : يفرطون جداً في إنشاء ما لا يسكنون ، وصناعة ما لا يحتاجون ، مما يزيد في حجم فتنتهم بأنفسهم ، وغرورهم بقوَّتهم ، كما وصف الله تعالى حكاية عن نبيه هود - عليه السلام – وهو يواجههم بفسادهم الحضاري : ( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ، وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ) (26/128-130) ، فرغم التفوُّق المادي الباهر ، وحجم الإنجازات الحضارية الكبيرة : لم يهتدِ هؤلاء إلى الإله الحق ، رغم ظهور الدلائل والبيِّنات ، وقيام الحجج والمعْجزات ، وإنما قبعوا - بكلِّ إنجازاتهم الحضاريَّة المتفوِّقة - أسفل سافلين : ( وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) (11/59) .
وهذا التقرير لا يستبعد وجود بعض طوائف من البشر ، ممن ينحطُّ روحيًّا وحضاريًّا في وقت واحد ، فيجمع الأشقياء بين سوْأتي : الكفر والانحطاط ، فيبلغون بذلك قاع المستنقع الإنساني السحيق ، ويقبعون في دركه المنتن العميق ، فلا دنيا كريمة نالوا ، ولا آخرة سعيدة حازوا : (...خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) (22/11) .
إن الإنجاز الحضاري لأمة من الأمم ، مهما بلغ من التفوُّق والرقي ، لا يمكن أن يُتَّخذ وحده مؤشراً معتمداً لاحتكار الصواب ، فليس بالضرورة أن يرافق هذا الإنجاز الحضاري صواب الاعتقاد في الله تعالى ، وفي الجانب الآخر : فإن انخفاض معدَّلات التفوُّق المادي لأمة من الأمم ، وقلَّة حجم إنجازاتها الحضاريَّة ، لا يُعدُّ دائماً مؤشراً للانحطاط العقدي ، والضلال الروحي ؛ فقد ينال الولاية عند الله أقوام لم ينالوا – في مرحلة ما - حظًّا كافياً من التقدُّم الحضاري ؛ فقد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تزكية أصحابه : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...) (3/110) ، في الوقت الذي كان بعضهم – من شدَّة الفقر والفاقة – إذا سجد في صلاته انكشفت عورته ، حتى قال سهل بن سعد - رضي الله عنه - : ( لقد رأيت الرجالَ عاقدي أُزُرهم في أعناقهم ، مثلَ الصبيان ، من ضيق الأزر ، خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال قائل : يا معشر النساء ، لا ترفعنَّ رؤوسكنَّ حتى يرفع الرجال ) .
وليس هذا إقرار من الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم لترك أسباب التقدُّم والرقي ، أو إهمال السعي في التخلُّص من الفقر والتخلُّف ، فليس هذا الترضي الرباني عنهم لما هم فيه من الضيق المادي ؛ فالتخلف لا يُحمد ؛ وإنما هو إقرار لهم على نهج الهداية الربانيَّة الذي سلكوه ، ولما استقرَّ في عقولهم من النظر الحضاري المفعم بالعبودية لله تعالى ، مع ما يحملونه في نفوسهم - في حال عوَزهم وحاجتهم - من الروح الحضاريَّة المتفوِّقة ؛ التي تُحسن قراءة السنن الربانيَّة ، وتُتقن التعامل مع مدَّخرات الأرض ، وتُجيد التفاعل مع البيئة الفطريَّة من حولها ، ولهذا لم يلبث هؤلاء الأصحاب – رضي الله عنهم - طويلاً حتى تجاوزا بسرعة مرحلة الفقر والعوز ، واكتسبوا ببراعة أسباب التفوق والتقدُّم ، ونالوا بدِّقة وسائل النهضة والتحضُّر ، مسترشدين في ذلك بالوحي الإلهي ، ومقتدين بالهدي النبوي ، فجمعوا بتفوُّق واقْتدار بين التقدُّم المادي ، وبين الرضا الإلهي ، وهذا ما لم تحظَ به الحضارات الإنسانية الماضية ، إلا ضمن فترات زمنيَّة محدودة ، في ظلِّ سلطان بعض الأنبياء والأولياء .
إن إصلاح الأرض وعمارتها - ضمن فرضي : العين والكفاية - جزء أصيل ضمن مهمة العبودية لله تعالى ، فلابد أن تكون وَفق نهجه الذي ارتضاه لعباده ، فهو سبحانه الخالق وله حقُّ الأمر : (...أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ...) (7/54) ، فلا بدَّ إذاً أن يكون تصرُّف العباد في طرائق العمارة وفَق مراده جلَّ وعلا لأنه المالك ، فله حقَّ التصرف فيما يملك ، وهذا مما استقر قبوله في فطرة الإنسان ؛ إذ لا يقبل العقل ولا يقرُّ بعدم تصرُّف المالك في ملكه ، ولا يقول أحد بغير هذا إلا حين يرتكس متخلِّياً عن الضرورة العقلية .
ولهذا تتناقض الفكرة العلمانيَّة عقليَّا ومنطقيًّا وبصورة صارخة مع مقتضى حقَّ الملكيَّة ، الذي تقرُّ به سياسيًّا وإداريًّا لجميع أفراد المجتمع ؛ وذلك حين تنبذ حقَّ الله تعالى في الحكم والهيمنة ، بصورة كلَّية فلا حكم له ولا سلطان على شيء ، أو بصورة جزئية بأن يحكم في أمور دون أخرى ، مع إقرارهم له – سبحانه وتعالى – وحده بالملك : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (29/61) ، ولا يُعفى العلماني من لحوق الخطيئة به : إقراره لله تعالى ببعض الملك ، حتى يقرَّ له - جلَّ شأنه - بكامل الملك ؛ لأن نفي حقِّ الله تعالى في حكم شيء واحد من مخلوقاته : كنفي حقَّه في حكم كلِّ مخلوقاته : (...لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (34/3) .
ومن هنا يُفهم أن العبوديَّة لله تعالى نهج شامل لكلِّ أنشطة الحياة الإنسانية ، فلا يغيب عنها شيء ، وهو ما عبَّر عنه ابن تيمية بقوله في مفهوم العبادة : ( اسم جامع لكلِّ ما يحبه الله ويرضاه ، من الأقوال والأعمال : الظاهرة والباطنة ) ، فلا مدخل حينئذٍ للفكرة العلمانيَّة على مفاهيم المسلمين ، حين يعتقدون أن المكان والزمان ، بكلِّ ما يحويانه من الأشياء والمتغيِّرات والأفعال ، كلُّها مخلوقة مربوبة لله تعالى وحده ، وهذا يقتضي بالضرورة انتظام المكلَّفين جميعاً بنهج العبادة الخالصة لله تعالى ، فهي نهجهم الأساس ، ومقتضى غاية وجودهم : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (51/56) .