صدمة الإتقان العلمي

مقال شهر ربيع الأول 1437هـ

صدمة الإتقان العلمي

          الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه ، والصلاة والسلام على سيد الشرفاء ، وإمام الأتقياء ، وأنبل النبلاء ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فإن الطبع السوي يميل بالضرورة إلى حبِّ الإتقان في الأداء والمنتجات والأنشطة والأعمال المختلفة ، ونحوها مما يعيشه الناس ويصادفونه في حياتهم ، مما تدخله الجودة والإحكام في الصنعة والأداء .

          وهذه المشاعر السويَّة ليست حكراً على طائفة المتقنين ، بل هي مشاعر عامة شاملة ، تنتظم كلَّ الأسوياء ، ممن يعيشون فطرتهم الطبيعية ، حتى وإن لم يحْظوا في أدائهم الشخصي بدرجة من درجات الإتقان ، لعجز قدراتهم ، وضعف إمكاناتهم ؛ فإن مصادفة العمل المتقن ، أو الأداء المتميِّز ، أو المنتج المتفوِّق ، هو في حدِّ ذاته بهجة للنفس ، وإثارة للعقل ، وأنساً للضمير ، فلا تطيق النفس السويَّة - حين تصادف الإتقان في شأن من شؤون الحياة - إلا وتبادله حبًّا بحب ، وشوقاً بشوق ، منْجذبة إليه بقوَّة نفسيَّة آسرة ، ورغبة عقلية جامحة ، فما تملك إرادتها حتى تخرَّ صريعة لبهجة الإتقان ، مستسلمة لتمام السلامة من العيوب والأوهام .

          وإن من أعظم وأجلِّ مجالات الإتقان المحبوب للنفوس السويَّة : الإتقان العلمي المتفوِّق ، متمثلاً في روعة الإنجازات العلميَّة في مجالات : البحث والتأليف ، أو التعلُّم والتحصيل ، أو الابتكار والتجديد ... فما زال الإنسان في كلِّ حين مبهوراً بمجالات التفوق الفكري ، المتصلة بالنشاط العقلي للمبدعين ، وما يسفر عنها من مواهب علميَّة جديرة بالاحترام والتقدير .

           غير أن لوثة نفسية ممْرِضة ، تكمن في دواخل عدد غير قليل من المنتسبين إلى ميادين العلم والمعرفة ، ممن حصلوا على درجات علمية ، غير أنهم لم ينالوا حظَّهم الكافي من مراتب الإتقان العلمي ؛ فما عركتهم معاناة البحث العلمي ، ولما عافسوا الكتب والأبحاث ، وما خالطوا المبدعين العلماء ، وإنما بقوْا قابعين بشهاداتهم العلمية على أوَّل أعتاب التفوُّق ، يشاهدونه عن بعد من نافذة ضيِّقة حادَّة ، فيبصرون على غبَش أشياء من عالم التفوِّق والإبداع غريبة عليهم ، فهم لم يخبروا بمثلها ، فيدركون أموراً قليلة يستوعبونها ، وتغيب عنهم أمور أخرى كثيرة لا يفهمونها ، فيعيش أحدهم دهره العلمي كلَّه لا يصادف عملاً علميًّا متفوِّقاً متْقناً ، إلا ضمن حدود ما يفهمه - في تصوُّره القاصر - من معايير الإتقان المشوَّهة ، فينطلق يحاكم المبدعين بمعاييره المضطربة ، مما اعتاد عليه في مسيره الأكاديمي الأعرج ، فما وافق عرْجته العلمية قبله ، وما خالفها لفظه واستهجنه ، حتى إن أحدهم يُعرض عليه العمل العلمي المبدع الدَّسم فيعْسِر عليه هضمه ، فلا يجد بدًّا من لفْظه واستنكاره ، في حين يُعرض عليه ما هو دون مستوى ذلك بمراحل فيستحسنه ويستطيبه ، لـمَّا سهل عليه هضمه واسْتساغته ، فأسنانه لا تزال لبنيَّة !!

          إن بعضاً من هؤلاء الخدَّج يقفون في طريق المبدعين أهل الإتقان ، فيقطعون عليهم مسيرهم العلمي ، ويناكفونهم في إنتاجهم المبدع ، فما إن يصادف أحدهم عملاً جادًّا - مما لا يستوعبه ولا يفهمه - حتى تنتابه صدمة الإتقان المزعجة ، التي تصعقه بشموخ بنائها ، وتهزُّه ببهاء كمالها ، فما يتمالك المسكين نفسه أمام فجْأتها ، حتى يذهب بالعمل بعيداً عن معايير الجودة ، فينحطُّ به أسفل سافلين ، وينطلق ليحاكمه إلى ضعفه وعوزه ، فبقدر حجم قصوره العلمي ، وقبح داخلته النفسية ، ودرجة صعْقته العقلية ، واحْتجاب شخصه خلف أستار السريَّة العلمية : تكون حدَّة ردَّة فعله ، وقسوة درجة حكمه ، وهم في هذا الشأن على ضروب وأشكال ومراتب :

          فمنهم الوقح العنيف ، الذي يأبى المنتَج العلمي المتفوِّق ، فلا يتقبَّله مطلقاً ، باعتباره إخفاقاً لا يستحق النجاح بأية درجة من درجات القبول !! فهو محارب للإتقان عنيد ، وعدوٌّ للمبدعين لدود ، فلا يمضي العمل المتقن من بين براثنه إلا لاعتبارات أخرى غير علمية .

          ومنهم الرعْديد الضعيف ، فهذا على عكس الأول ، غير أنه إذا دُعيَ لتقويم عمل علمي متقن اعتذر بشدَّة ، وهرب بعيداً عنه حتى لا يراه ولا يسمع به ؛ لأن الإتقان العلمي يشكِّل له إزعاجاً عقليًّا مقْلقاً ، وإرهاقاً نفسيًّا شاقًّا ، لا يتحمَّله بناؤه الشخصي الضعيف ، لهذا يُؤْثر السلامة على تعْريض نفسه للتعب والإرهاق .

          ومنهم الظلوم الغشوم ، الذي يعرف مراتب الإتقان العلميَّة ويفهمها ، ويميِّز بين الحسن والقبيح ، ويفرِّق بين الجيد والرديء ، إلا أن نفسه لا تطيق الكمال ، حتى يذهب ينبش عن شيء في المنتج العلمي يتعلَّق به ؛ ليريح نفسه ، ويسكِّن روْعه ، ويخفِّف قلقه ، فلا تسكن نفسه إلا بالطعن ، ولا يرتاح ضميره إلا بالنقد ، فما يراه العقلاء مجرَّد رأي لا يقدِّم ولا يؤخِّر : يراه الظلوم أساساً علميًّا مهمًّا ، وضرورة بحثيَّة لا بدَّ منها ، حتى إنه ليختصر الجهد العلمي كلَّه في رأيه هذا .

         ومنهم الغافل الجهول ، الذي يتحاشى الفحص والفهم ، ويتجنَّب التأمُّل والنظر ، فلا يكلِّف نفسه جهداً علميَّا ، ومع ذلك يتصدَّى للتقويم والتحْكيم ، فكلُّ عمل يُعرض عليه مقبول ؛ الصالح منه والطالح ، والمتقن منه والمختل ، كلُّ الأعمال عنده مشكورة مستحسنة ، وجلُّها طيِّبة متْقنة ، ففي الوقت الذي يمتطي ظهره المفرِّطون ، ييأس من إنصافه المتْقِنون .

           إن هؤلاء وأضرابهم تقلقهم كثرة الصواب في الأداء العلمي ، فلا يطيق أحدهم مجاراة ذلك واستمراره ؛ لأن كثرة الصواب تشعره بضعفه وقصور ذاته ، فلا تسمح له في أن يجد نفسه المتعطِّشة للخطأ ؛ لكونها ترتوي من أخطاء الباحثين ، وتقتات على سقطات المجتهدين ، فتسعد نفوسهم لوجودها ، وتبتئس لفقْدها ؛ ولهذا يستحسن الطلبة المخْفقون التعامل مع هذه الأصناف من المقوِّمين ، فيجدون عندهم العطف والرحمة ، والتيسر والتسهيل ؛ لكون إخفاقاتهم العلمية ، وقصور أدائهم البحثي ، يمثل غذاء هؤلاء وقوتهم ؛ لكونه يشعرهم بالقوة الذاتية والمكانة العلمية ، فما يزال أحدهم رحيماً بالمفرِّطين ، عطوفاً على المقصِّرين ، يشبع نفسه الخربة بالوقوف على أخطائهم ، والاستمتاع بسقطاتهم ، فتنعم بذلك وتسكن ، فلا يبخل عليهم حينئذٍ بالعطاء السخي مقابل متعة نفسه الضعيفة ، وسلامة ذاته الصغيرة .

          ومن المعلوم أن الباحث المتقن يرهق المحكِّم ويتعبه ، فلا يتركه يلتقط أنفاسه ، أو يجمِّع أفكاره ، حتى يلاحقه بالأفكار الجديدة ، ويثيره بالمفاهيم العميقة ، ويفاجئه بالاستنباطات الفريدة ، فما يزال مشدود الأعصاب والقوى ، متيقِّظ الذهن والحواس ، محاصراً بين أمرين : إما الاستسلام للمنتج العلمي بلا اعتراض ولا نقد ، وإما البحث وراءه بالفحص والتنقيب ، وكلاهما صعب على النفس عسير .

          إن أناساً من هؤلاء المصْعوقين قد ملأهم الكبْر ، فهم يعرفون الإتقان وشروطه ، ويفهمون معاييره وأصوله ، وربما نالهم حظٌّ منه ، ومع ذلك يمنعهم حظُّ النفس من الاعتراف للمتْقن بالتفوُّق ، فإذا عُرض على أحدهم عمل مبدع مُحْكم ، أو وقع في يده منتج علمي مُتْقن ؛ فإنه يهوي في أغوار نفسه العميقة ، فيغوص في دركات سحيقة ، فلا يبلغ قاعاً لها صدىً ينتهي إليها ، فرغم شدَّة إعجابه : لا يعود على المبدع ببنت شفة ، إنما هو الصمت العجيب بلا تعبير ولا تفسير !

          والمثير في نهج هؤلاء المذعورين إجماعهم العام على رفض الاعتراف بالإتقان ؛ بحجَّة أن الجهد البشري - مهما بلغ - يستحيل عليه الكمال المطلق ، باعتبار أن الكمال المطلق – في فهمهم - مرادف للإتقان الواجب ، فيضمُّون المتقِن إلى غيره ؛ ليبقى ضمن مجموع القطيع العام ، فلا يتميَّز عنهم بشيء ، فهم بذلك يستبعدون على الجميع الكمال الممكن ، الذي تتطلَّبه معايير البحث العلمي ، وتشترطه المراكز العلمية ، مما هو ممكن ومتاح ، فهم بنهجهم هذا ينزلون المتفوِّقين إلى مرتبة منْ دونهم ، ويرفعون الضعفاء إلى مرتبة منْ فوقهم ، فيتجانس الجميع ويتشابهون ، وهذا ما يُلاحظ بوضوح في بعض الجهات العلمية من تشابه نسب الدرجات وتطابقها .

         وهذا لا شك نهج رديء باطل ، وإجماع مجْحف فاسد ، من شأنه تثبيط المبدعين وتأخيرهم ، وتجريء المفرِّطين وتقديمهم ؛ فإن صفة الكمال الممكن هي عين الإتقان الواجب ، فليست مستحيلة ولا بعيدة ، ما دام أن الباحث يعطي المسألة حقَّها من المعالجة العلمية المعتبرة ، وفق معايير البحث الصحيحة ، بحيث لا يُبقي للمصوِّب إلا رأيه الشخصي ، الذي يتعدد بتعدد المصوِّبين .

         ولا يعزب عن البال أن صدمة الإتقان تجربة نفسيَّة لا بد منها للمبدعين عند محاكمتهم أعمال الآخرين العلمية المتقنة ، فهي دهشة لا بد منها في الوسط العلمي الرديء ، الذي يقلُّ فيه الإتقان وينْدر ، ويعمُّ فيه الخلل ويكثر ، غير أن السويَّ منهم لا يلبث طويلاً حتى يتعافى من أثر الصدمة ويتوازن ، ويذهب عنه اضطرابه ، فينسجم مع العمل المتقن ويرْتضيه ، وأما المغلوب منهم على خلقه ، الأسير لأهوائه وشهواته ، فقد يطول به أثر الصدمة أمداً من الزمان حتى يرجع إلى الحق ، وقد ينهزم فتغلبه نفسه القبيحة فلا يعود أبداً .

          إن واقع الأمة الإسلامية المعاصر ، وما لحق بها من أزمات التخلُّف الحضاري ، وما ترتب عليه من تأخُّر دورها الريادي في القيام على الناس ، وما تبع ذلك من تفريطها بواجب الشهادة عليهم ، ضمن ما كلَّفها الله تعالى وألزمها ، باعتبارها أمة خاتم النبيين – عليه الصلاة والسلام – فهذا الواقع المؤلم : لا يتحمَّل مزيداً من المراهقات العلميَّة ، ولا يطيق الاستمرار في المناكفات الشخصيَّة ، لا سيما حين تصدر عن النخبة المجتمعيَّة المثقَّفة ، التي عقدت عليها الأمة المسلمة آمالها ، وأسلمت إليها مقاليدها ، ورضيت منها اختياراتها ، فأية جريمة ترتكبها هذه النخبة حين تخون الأمانة ، وتخْفِر الأمة في عهدها ؟