مقال شهر شوال 1436هـ
في الحكمة من الخلاف الفقهي
الحمد لله الذي علَّم بالقلم ، علَّم الإنسان ما لم يعلم ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيِّد المرسلين ، نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فقد تميَّزت رسالة الإسلام الخاتمة بمميِّزات وخواصٍّ ليست لغيرها من الرسائل السماويَّة السابقة ، غير أن خاصيَّة منها هي الأبرز والأجل ، وهي خاصيَّة البقاء والدوام ؛ بحيث تحمل الرسالة الخاتمة في ذاتها أسباب بقائها ، واستمرار دوامها ، بحيث تكون صفة الخلود جزءاً أصيلاً في تكوين هذه الرسالة ، لا تنفك عنها إلى آخر الدهر .
وهذه الخاصيَّة الفريدة تستلزم بالضرورة أن تتضمَّن الرسالة الخاتمة في بنائها أسباب بقائها على الدوام ، وهذا يستلزم أن تحمل الرسالة في طبيعة دوامها مميِّزات ثلاث :
الأولى هي ميزة دوام السلامة ؛ بحيث تتضمَّن الرسالة أسباب بقائها وسلامتها من أي خلل يتطرَّق لنصوصها أو لمفاهيمها ، فلا يتطرَّق إليها تبديل ولا تغيير ولا اندراس ، فتبقى على طبيعتها كما أنزلت أوَّل مرة محفوظة بحفظ الله تعالى ، تقاوم أسباب الفناء والاضمحلال والتغييب وسوء الفهم ، التي اجتمعت على الرسائل السماوية السابقة ، التي جاءت لتتناول أزمنة محدَّدة ، وتعالج أقواماً معيَّنة .
والثانية هي ميزة دوام العطاء ؛ بحيث تستمر الرسالة دون انقطاع في مدِّ المكلَّفين بما يحتاجون إليه لصلاح دينهم ودنياهم ، عبر العصور والأزمنة المتلاحقة ، فما تزال الرسالة الخاتمة ترافق الناس في مسيرهم التاريخي عبر القرون والأجيال ، تعالج مسائلهم الجديدة ، وتحلُّ مشكلاتهم العويصة ، وما تزال كذلك على حالها متجدِّدة متطوِّرة ما استفتوها في قضاياهم ، ورجعوا إليها في شؤونهم .
والثالثة هي ميزة دوام الاستيعاب ؛ بحيث لا تشرد مسألة - أياً كانت مما يحتاج إليه المكلَّفون - عن أصل شرعي تندرج تحته ، فيتناول المسألة بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، فلا يفوتها شيء مما دقَّ من القضايا أو عظُم ، منذ نزول الرسالة إلى الإذن برفعها في آخر الزمان ، فتستمر على نهج الاستيعاب الشامل دون تفريط أو تقصير ، ما دام البشر في مهلة الله تعالى قبل قيام الساعة .
إن هذه المميِّزات الثلاث للرسالة الإسلاميَّة الخاتمة متضمَّنة في كلِّ النصوص الشرعيَّة من القرآن والسنة المعتبرة ، فتلبِّي كلَّ احتياجات الإنسان ، مما يفتقر إليه من العقيدة والتشريع ، في العبادات والمعاملات ، بحيث تستوعب اجتهادات المجتهدين في كلِّ عصر ، فتُمِدُّهم بما يُغنيهم من الأحكام والتشريعات ، بقدر بذلهم من جهد النظر والتأمُّل ، وبما يكافئ حجم وسعهم المبذول بقصد بلوغ الصواب ، فما تزال الشريعة منذ نزولها تستوعب اجتهادات المجتهدين بلا تناهي ، فتذوب جهودهم في بحرها الواسع ، وتبقى الشريعة ثريَّة بطبعها على حالها ، لا تنضب من كثرة الأخذ والاغتراف .
ولقد مرَّ على التاريخ الإسلامي جهابذة من كبار العقول ، وأذكياء الدنيا ، وأرباب الفكر ، فما بخلت عليهم نصوص الشريعة بما يشبع نهومهم العلمية ، ولا امتنعت عما يحقِّق طموحاتهم المعرفية ، وما زالت الشريعة تحرِّض العلماء الراسخين في كلِّ عصر على الاجتهاد ، وتدفعهم نحو البذل والعطاء للبحث في كنوزها المدَّخرة ، دونما حرج أو إثم ، وإنما هو الأجر والثواب ، بين الحسنة أو الحسنتين .
إن أحدهم يجتهد باذلاً وسعه ، فيوقِّع عن رب العلمين ، فيصيب الحقَّ مرَّة ويخطئه مرَّة ، فيحترم الشارع الحكيم كلَّ ذلك ويقدِّره ، ولا يثرِّب على صاحبه : أصاب في اجتهاده أو أخطأ ، رغم أن الحقَّ عنده واحد لا يتعدَّد – كما هو الراجح - بل ويسبغ على كلِّ ذلك وشاح الشرع الطاهر ، ويلفُّه بثوب الدين السابغ ، فتنصبغ كلُّ الاجتهادات : الراجحة ، والمرجوحة ، والضعيفة ، وحتى المخطئة ، بالاحترام والتقدير والإجلال ، ويبقى لأصحابها حقُّهم في الفضل والتوقير والأدب ، وليس ذلك من باب تقديس الأشخاص ، أو تصويب الأخطاء أو تسويغ متابعتها ؛ وإنما لكونها محاولات صادقة للتعبير عن حكم الله تعالى ، ممن خوَّلهم الشارع النظر والتوقيع عنه .
ولهذا لا يُلام العامي حين يقلِّد في مسألة المخطئ من العلماء ، ومازالت الأمة الإسلامية منذ قرون متطاولة ، بعلمائها وطلابها وعوامِّها : تأخذ عن أصحاب المذاهب المشهورة ، بين مقلِّد ومجتهد دون نكير ، رغم أن اجتهاداتهم - قطعاً - لا تخلو بعضها من ضعف وخطأ ، وراجح ومرجوح ، ومع ذلك تبقى جملة هذه الاجتهادات من الدين المحترم ؛ لانتسابها للشرع الحنيف المقدَّس .
إن هذه الثروة العلمية المتراكمة عبر القرون : هي ذخيرة الأمة وكنوزها العظيمة ، بكلِّ ما تحويه من الإصابات والأخطاء الاجتهادية ؛ لأنها التعبير الصادق والواقعي عن تفاعل المكلَّفين مع وحي ربِّ العالمين ، فإن الشارع الحكيم حين حرَّض العلماء الراسخين على الاجتهاد لم يرد منهم جميعاً أن يصيبوا الحقَّ في كلِّ مسألة ، ولو كان الأمر كذلك لجعل المولى عزَّ وجلَّ على كلِّ مسألة دلالة بيِّنة تدلُّ عليها ، كحال مسائل الإجماع ؛ وإنما أراد سبحانه - بلطفه ورحمته - أن تتنوَّع اجتهادات العلماء وتكثر ، وتتباين فيما بينها وتزخر ؛ لتكون رافداً شرعيًّا محترماً ومستمراً ، يرافق نصوص الوحي في مسير الأمة الحضاري .
ولعل هذا هو سرُّ الرسالة الخاتمة ؛ أن الأخذ الاجتهادي عنها لا يتناهى ، ما دام المكلَّفون يستفتونها ويرجعون إليها ، فنصوص الوحي المبارك مهما كثرت فهي محدودة ، غير أن فهوم الآخذين عنها كثيرة ومتنوِّعة ، فلا تكاد تحصى .
وهذا ما لا يفهمه البسطاء ، حين يطلبون نصوصاً من الوحي واضحة الدلالة على كلِّ مسألة فقهيَّة تستجدُّ لهم ، وهذا- إن أمكن حصوله - يستلزم بالضرورة استمرار الوحي ! الذي يستلزم أيضاً استمرار النبوَّة ! غير أن الرسالة المحمديَّة المباركة استغنت عن كلِّ ذلك بما تحمله في ذاتها من الثراء والسعة والشمول ، الذي يستوعب المستجدات أياً كانت ، والحاجات مهما كثرت ، والمسائل مهما تشعَّبت .
ولهذا جاءت كثير من نصوص الوحي شاملة وعامة ، وأخرى محتملة لأكثر من معنى ، فما زال العقل البشري يستنبط ويستخرج ويستقي ، فما تزداد النصوص بذلك إلا قوة ومتانة وثراء ، ولا يزداد العقل البشري أمام شموخها وعلوِّها وعظمتها : إلا خشوعاً وتواضعاً وانكساراً .
وأمام جلال النصوص الشرعيَّة يتأخر الأغبياء ليتقدَّم الأذكياء ، وقد منحهم الشارع الحكيم حقَّ الخطأ الاجتهادي ، فيواجه الجهبذ منهم النصَّ الواحد دون تردُّد ، فيستخرج منه عشرات المسائل التي يحتملها ، والآخر يفعل مثله أو نحوه ، والثالث كذلك ، وتمضي القرون على هذا النحو ، فإذا بالنصِّ يصمد لكلِّ هؤلاء ، ولا يضيق بأحد منهم ، فيجيب كلاًّ بحاجته ، وبقدر ما يفتح الله تعالى عليه ، وبهذا تستوعب الشريعة مستجدات العصر ، فلا تضيق بشيء من ذلك ، وتبقى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فتيَّة شابة ، لا يتطرَّق إليها الهرم ، ولا تنالها الشيخوخة ، فضلاً عن أن يضيع بعضها ، أو يُساء - على مجموع الأمة - فهمُها ، فهي محفوظة النصِّ بوعد الله تعالى ، ومضمونة الفهم بالطائفة المنصورة .
إن ما يشيع من بعض المتحمِّسين للشريعة ، من وجوب جمع الناس على الراجح من المذاهب والأقوال ، حتى يخلص الناس إلى قول واحد في كلِّ مسألة ، فهذا على فرض أنه الأفضل : فهل هو ممكن في ظلِّ إدِّعاء المجتهدين الأرجح في اختياراتهم الفقهية ؟ لقد عاشت الأمة الإسلامية قرونها المفضَّلة ، فما اقترح عالم جمع الناس على مذهب واحد ، فضلاً عن إمكانية ذلك ، بل إن صاحب الوحي – صلى الله عليه وسلم – المعنيُّ قبل غيره بوحدة الأمة ، وحفظ كيانها من التصدُّع ، وحماية لحمتها من التفرُّق : لم يصدر عنه شيء من ذلك ، بل إن النصَّ القرآني المقدَّس نزل على سبعة أحرف متعاضدة صحيحة ، فيُقرأ النصُّ على وجوه عربية متنوِّعة ؛ لتشمل لهجات الأمة كلَّها آنذاك ، فلما اختلفوا في القراءة حينها : أدِّبوا بقبول التنوُّع وترك التنازع ، باعتبار ذلك مكرمة من الله تعالى ، وتخفيفاً عن الأمة ، وليس ذريعة للاختلاف والافتراق .
والأعجب من هذا أن يكون فهم النصُّ النبوي في ذاته موضع اختلاف بين الصحابة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشخصه الكريم بين أظهرهم ، حين أمرهم بصلاة العصر في بني قريظة ، بعد أن قدم من غزوة الخندق ، فانقسم الصحابة – رضوان الله عليهم – في فهم النصِّ العربي البليغ إلى قسمين ، والتزم كلُّ فريق باجتهاده ، فصلَّى بعضهم العصر في وقته في أثناء الطريق ، والآخرون أخذوا بظاهر النصِّ فلم يتمكَّنوا من صلاة العصر في بني قريظة إلا في الليل ، ومع ذلك لم يعيبوا على بعضهم حين خالفوا ظاهر التوجيه النبوي ، ولا حين أخروا الصلاة الوسطى عن موعدها ، فكلا الفريقين أتى بأمر عظيم ، غير أن مجرَّد كونهم مجتهدين في فهم النصِّ لبلوغ الصواب : رفع المولى عنهم الحرج ، وحطَّ عنهم الإثم .
والعجيب في شأن هذه الواقعة الفقهية هو إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم الفريقين على اجتهادهما ، والأعجب في هذا الأمر أنه لم يشعرهم بالرأي الفقهي الراجح ، على قاعدة عدم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ونهاية العجب في هذه المسألة : أنه لم يُنقل بيقين اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه أحد الرأيين أو غيرهما ، فأين تُراه صلَّى العصر ؟ رغم توافر الدواعي على نقل مثل هذا ، فلماذا لم يُنقل ؟ وهل قُصد إخفاء ذلك عن المجتهدين ، حتى لا يمتنعوا عن الاجتهاد ؟
إن هذه الحادثة العظيمة – على ما فيها من دروس وعبر – تؤسس للاختلاف الفقهي وتقعِّد له ، وتؤدِّب المجتهدين على احترامه ورعايته ، فتضع جميع الآراء الاجتهادية التي يحتملها النصُّ في مرتبة واحدة بين المتنازعين ، وأن الترجيح بين المسائل المحتملة ليس حتماً واجباً يلزم الفقيه العمل به في كلِّ حين ، وأن المجتهد معذور في اختياره ، لا يُلام ما دام يروم الصواب ، وأن شناعة الرأي الاجتهادي لا تُلحق صاحبها الإثم .
إن التأسيس لهذا الفهم الشرعي من شأنه استجلاب جمهور العلماء إلى موائد الشرع للنظر والتأمل والاجتهاد ، المفضي إلى توسيع الذخيرة العلمية لتراث الأمة ، ليدوم بذلك العطاء والاستيعاب ؛ ففي الوقت الذي تكفَّل الله تعالى للأمة بدوام بقاء رسالتها وحفظها : أناط بها مسئولية البحث والاجتهاد والاختيار ليدوم بذلك عطاء الشرع ويستمر ، ويدوم معه الاستيعاب للمستجدَّات الفقهية ، التي تظهر لها في مسيرها الحضاري .