مقال شهر جمادى الآخرة 1436هـ
تمثيليَّة المعرفة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. يتحدَّث بعض المختصِّين عن الزمالة ، باعتبارها درجة أكاديمية في الأوساط العلمية ، إلا أن استخدامها التطبيقي أوسع من ذلك ، فهي المرافقة العلمية ، أو المصادقة العلمية ، أو التآخي العلمي ، الذي يحصل بين اثنين أو أكثر ، بهدف الحصول على المعرفة ، سواء بين مجموعة من الطلاب ، أو بين أستاذ وطالب أو أكثر ، أو بين أستاذين أو أكثر .
ولكلِّ هذه الصور - من علاقات الزمالة العلمية - شواهد الكثيرة في التراث الإسلامي المجيد ، فلا يكاد يخلو أستاذ أو طالب من نوع ما من هذه العلاقات العلمية ، وعليها قام صرح المعرفة في الإسلام ، وانتشر وذاع في الآفاق ، فبقدر سعة هذه العلاقات وتنوِّعها وتعدُّدها : يكون حجم ومتانة البناء العلمي ، ورسوخ أركانه ، وسعة انتشاره .
غير أن قلَّة هم الذين فقدوا بعض هذه العلاقات ، فلم تزدهر علاقاتهم العلمية بتنوِّع مشاربها ، حتى ضاقت على بعضهم مواردهم العلمية من جهة ، وسُدَّت على آخرين منافذهم التعليمية من جهة أخرى ، فكلاهما يعاني أزمته العلمية الخاصة به ، بين ضعف الموارد وشحِّها ، بما يخلُّ بمتانة البناء العلمي ، وبين انسداد منافذ التعليم ، فلا يجد العالِم موضعاً لعلومه .
إن أحدهم قد يكدح في طلب العلم ، فيبذل وسعه ، فلا يتحصَّل منه إلا على القدر اليسير ، الذي لا يُؤهِّل للاستقلال العلمي ، الذي من شأنه حيازة معرفة متفوِّقة ، تسهم في بناء الشخصيَّة العلمية المرموقة ، التي تسهم بدورها المعرفي في بناء مشروع الأمة الإسلامية الحضاري ، وإنما ينحصر جهد هؤلاء وأشباههم في الأداء التقليدي للعلم ، الذي لا يتجاوز حدَّ النقل المحدود للمقررات الدراسية ، التي تحصر العملية التعليمية برمَّتها في دوائر الرتابة والتكرار والترديد ، فيعجز أحدهم عن بناء الشخصيَّة العلمية المتفوقة في طلبته ، القادرة على حمل المعرفة العلمية وتطويرها .
ولئن كان العاجز عن تحصيل المعرفة المتفوِّقة معذوراً في قصور أدائه العلمي في نفسه وفي الآخرين بعد أن أفرغ وسعه ؛ فإن أزمة العالِم المتمكِّن حينئذٍ تصبح كبيرة وأليمة ، حين تنسدُّ منافذ علمه ، حتى يضيق بها صدره ، فلا يجد لها متنفَّساً في ساحة الطلاب ، أو عند طبقة الزملاء ، فالكلُّ زاهد فيما عنده ، إلا أفراداً متناثرين على رقعة الأرض الواسعة ، لا يجد بعضهم إلى بعض سبيلاً .
لقد منيت كثير من الساحات الأكاديمية العربية بجمهرة من المرتزقة المتعالمين ، ممن فقد احترامه لنفسه ، وقلَّ في حسِّه تقدير ذاته ، فعاد متسوِّلاً في ثوب طالب ، يقتات على فتات موائد المعرفة ، فيرضى مبتهجاً بما تأكله الفئران في بطونها ، وتسوقه النِّمال إلى جحورها ، فما يزال أحدهم فرحاً بزغل العلم ، قد سطَّر أسطراً مصفوفة في صحف معدودة ، كأنما سكب طفلٌ سواداً في بياض ، فبدت وكأنها أوراق علم منظومة ، تؤهِّل صاحبها للتصدر للمعرفة ، وتمنحه وثيقة للتأكُّل والترزُّق .
إن مصيبة العالِم تتضاعف حين تنضمُّ إلى مصيبته مصيبة عُقم القلم ، فيتعسَّر التدوين كما تعسَّر الإملاء ، فلا يُسأل عن حاله حينئذٍ ، فقد بلغت مصيبته المنتهى ، فهو لا يعدو أن يكون كنزاً مدفوناً ، أو بئراً مطموراً ، فلا يُهتدى إليه إلى آخر الدهر ، فتُحرم الأمة بتقصيرها الانتفاع بعلمه ، فتتأخر عن مسيرها بقدر ذلك ، أما هو فلا يضرُّه عقوق المتعالمين ، ولا يفوته - عند الله - أجر العاملين ، فالله أجلُّ وأرحم من أن يجمع عليه ضرَّيْن ، فقد ناله من العقوق العلمي ما يكفِّر التقصير والسيئات ، ويرفع المنازل والدرجات .
إن أحدهم يرافق العالِم في مسيرته العلمية عقوداً من الزمان ، فلا يعترف له بالعلم ، بل ولا يكترث لمكانته ، تغافلاً منه أو حسداً من عند نفسه ، بل إن بعضهم يعرفه باسمه وسمته ، وما يزال ينتفع بإنتاجه العلمي ، فإذا لقيَه تجاهله ، بل ربما يمرُّ من أمامه فلا يلقي عليه السلام ، وإن منهم من لا يكتشف مكانة العالم - وهو يعاشره - إلا بعد دهر من الزمان ، كأنه بدر الليل وسط العميان .
وإن من أسوأ ما ينال العالِم حسد التلاميذ ، فلا يكفيه أن ينال حصته من حسد الأقران ومكائدهم ، حتى يلحقه نصيبه من حسد التلامذة وسوئهم ، فما أن يقوِّم أحدهم طلابه بما يدين الله تعالى به ، حتى ينهالون عليه بالنقد والتجريم ، ويتعاون معهم المبطلون ، ممن فقدوا الأمانة العلمية ، وسُلبوا الحسَّ الأخلاقي .
إن حجماً ضخماً من فوضى التعليم تعصف بجملة من المراكز الأكاديمية العربية ، على أيدي بعض أساتذة مخرِّبين ، احترفوا التمثيل ، وأتقنوا التدجيل ، يمكث أحدهم عقوداً من الزمان على منصَّة مسرح العلم ، يمثل دور العالِم في تمثيليَّة المعرفة ، فلا يملُّ من طول الأداء التمثيلي ، إلى درجة أنه ينسجم في أداء دوره انسجاماً كاملاً ، حتى تختلط عليه الحقيقة بالزيف ، ويلتبس عليه الواقع بالخيال ، فلا يكاد يفرِّق بينها ، فإذا أتقن أداءه التمثيلي ، ومضى على حاله زمن : انخلعت عليه الألقاب العلمية ، والنياشين المعرفية ، ليتأهَّل بها إلى رتبة القداسة الأكاديمية ، التي ترفع عنه قلم المحاسبة العلمية ، فتجعل منه صنماً أخْشباً على منصَّة مسرح المعرفة .
لقد سبق إلى كثير من مراكز العلم – على حين غفلة من الرقيب الناصح – حفنة من أصحاب النفوس الصغيرة الوضيعة ، والهمم الواطية الدنيئة ، مندفعين بحمَّى الألقاب العلمية ، التي جعلت من الشهادة الأكاديمية وثناً للعبادة ، تُهدر في سبيلها الأخلاق المرعية ، والأعراف الأكاديمية ، والأمانة العلمية ، فيندسُّ أحدهم خلف مخرٍّب أكاديمي ، يمكِّنه من الشهادة بأبخس الأثمان ، وبأحطِّ الجهود ، فما يزال البليد ملْصِقاً نفسه بمؤسسته التعليمية ، حتى يُمِلَّ أهلها ، فما يزال كذلك حتى ينتزع وثيقته كيفما كان ، فإذا صادفه أكاديميٌّ جاد : نفر منه مذعوراً ، كأنما يُساق إلى مهلكته ، فإذا لم يجد من ملازمته بدًّا : سايره منافقاً له ، صابراً على قدره المكروه ، حتى يتمَّ له الخلاص .
وإن من أعظم الشواهد على خطر هذه الفئة الدخيلة على العلم ، وأدوارها التخريبية الخطيرة ، هو حجم تنامي السرقات العلمية بصورها المختلفة ، التي ضجَّت من تفاقمها الأوساط الأكاديمية في أول الأمر ، حتى إذا كثرت أرقامها ، وطفحت أعدادها : أخذت كثير من الأوساط العلمية تتأقلم معها ، باعتبارها من عموم البلوى التي يصعب تحاشيها ، لذا يُغتفر لمثلها ! إضافة إلى انفلات وسائل التقويم ، وانحلال ضوابطها العادلة ، فلا ميزة لأحد على أحد ، كلُّهم سواسية في التفوِّق كأسنان المشط ! فإذا شذ عن القوم حرٌّ يحترم نفسه ، ويعرف قدره ، ويعظِّم ربه : ناله من دهاقنة الخراب ما يخرس صوته ، ويكفُّ قلمه ، ويعيده من جديد صاغراً إلى مجموع القطيع ، فإذا ثبت على مسلك الطهارة : كان الإبعاد والطرد مصيره : (...أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) 7/82 .
غير أن جمعاً من الأساتذة الجادِّين - ممن لا تخطئهم العين - أخذوا يتأقلمون مع الوضع التعليمي الرديء ، متخفِّيِن بمعارفهم العلمية ، فلا يقدِّمون للطلبة من المعرفة إلا القدر الذي يضمن لهم درجة النجاح ، ويدفع عنهم المساءلة .
أما المخرِّبون - فيما بينهم - فقد حزموا أمرهم ، واتخذوا قرارهم ، للمضي قدماً في هذا السبيل الفجِّ ، فلا ينكر بعضهم على بعض ، مهما بدا عن أحدهم من هفوات أكاديمية ، أو سقطات علمية ، أو تقصير معرفي ، على نهج قول القائل : ( افتضحوا فاصطلحوا ) ، فإذا صادف مخرِّب من هؤلاء طالباً جادًّا على غير المعتاد ، حريصاً على العلم ، راغباً في المعرفة : كان الهمُّ كلُّ الهمِّ في ردِّه إلى مجموع القطيع ، فإذا تمرَّد على سياسة القطيع : كان التنكيل والإبعاد مصيره .
إن زمناً ليس ببعيد ، يترقَّبه المحترقون على المعرفة ، حينها يُسجَّى على مشرحة التاريخ كلُّ من ارتبط شخصه بعمل أكاديمي ، قد علَّق اسمه على أطروحة علمية : مشرفاً أو مناقشاً أو طالباً ، أو مكَّن لمتعالمٍ مترزِّقٍ التسلُّق على ظهره إلى منصَّة مسرح المعرفة ، فألْبسه ثياب علم تنكُّرية ، ليمثل دور العالِم أمام الطلاب .
إن هؤلاء وأمثالهم – عن قريب ضمن دورة تاريخية تقويمية مرْتقبة - سوف يُطرحون للتشريح ، على أيدي جيل جديد ، لا تستهويه شخوص الخُشب المسنَّدة ، ولا تنطلي عليه زخارف نتاجهم العلمي ، عندها ينكشف للجمهور الزيف ، وتظهر للعيان الحقيقة ، فيا ويل من كان مغْلاقاً للخير مفتاحاً للشر ، ويا ويل من كان معول هدم وأداة تخريب .
إن لعنة جيل النهضة سوف تلحقهم في قبورهم ، فتنبش عن رفاتهم لترجمهم ، كرجم قبر أبي رُغال ، فإن إعاقة نهضة الأمة ، بتعطيل مشروعها الحضاري المنشود : أشدُّ من دلالة العدو على بعض عوراتها ؛ فإن استباحة العدو بالخيانة طرفاً من الأمة ، أهون من استباحة مجموعها بتعطيل أسباب نهضتها .
دخيلٌ في الكتابة يدَّعيها ........ كدعوى آل حربٍ في زياد
يشبه ثوبُه للمحو فيه .............. إذا أبصرتَه ثوبَ الحداد
فدعْ عنك الكتابةَ لست منها ... ولو لطَّختَ وجهَك بالمداد