مقال شهر جمادى الأولى 1436هـ
الغلو بين الطَّرفيْن
الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيِّدنا رسول الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فإن من المعروف أن الأمراض التي تصيب الإنسان تتنوع بحسب مواقع الضعف فيه والخلل , فإن المرض حين ينزل بالإنسان ، فغالباً ما يصيب أضعف عضو يمكن السيطرة عليه ، أو الفتك به ، أو إضعاف أدائه على الأقل .
ولا تقتصر الأمراض على الجانب البدني من الإنسان ؛ فإن الناحية النفسية والعقلية والروحية : قد يصيبها أيضاً شيء من المرض المخلِّ بأدائها وسلامتها , فتتعطَّل بالكلية ، أو تضعف عن القيام بدورها الطبيعي ، وقد يكون المرض الذي يصيبها أشد مما يلحق الناحية البدنية من الإنسان , فإن المرض الذي يصيب الجانب الغيبي المستتر من شخصية الإنسان أشدُّ صعوبة في تشخيصه ، وتحديد موضعه من الشخصية ، وهو أيضاً أصعب في علاجه من الأمراض البدنية الظاهرة , التي يمكن اكتشافها بسهولة من خلال المعاينة المباشرة ، أو الخبرة العملية ، أو الأجهزة والأدوات الطبية .
ومن هنا فإن أزمة التطرف الفكري والغلو , والجنوح عن الاعتدال الديني : هو مرض يصيب الجانب الغيبي من الإنسان , فيفتك به فتكاً شديداً , حتى يغيب صاحبه عن الرشد العقلي ، ويضل عن النضج السلوكي ، ولهذا فإن غالب ما يصيب الغلو صغار السن ، والفئات قليلة الخبرة ، والأخرى ضعيفة التجربة , وهو ما عبر عنه الحديث النبوي ، الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف الغلاة : ( أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ) , وهذا يشير بوضوح إلى ضعف الخبرة , وربما إلى شيء من الضمور العقلي ، الذي يعقبه في العادة ضعف في النظر ، وسوء في الفهم ، وشذوذ في السلوك .
وهذا النوع من الخلل العقلي ، وسفاهة الأحلام والمفاهيم ، والاختلال السلوكي ، ليس قاصراً على المتطرفين الدينيين فحسب , فإن بعض المغرضين يستميت في سبيل حصر مسألة التطرُّف في الشأن الديني ، باعتبار أن الشذوذيْن : الفكري والسلوكي ، اللذين يقعان خارج القضية الدينية - مهما بلغ من الشدَّة والحدَّة والغرابة - هما في نظرهم مجرَّد رأي مختار ، أو سلوك شخصي حر ، وهذا لا شكَّ تحكُّم باطل في توجيه مسالك الغلو والتطرُّف ؛ فإن كلَّ أطراف الشذوذ مذمومة ، والشرع الحنيف يستقبح كلَّ حيْدة عن الصراط المستقيم ، في أيِّ اتجاه كانت ، وعن أية فئة صدرت .
ولهذا فإن أزمة الغلو قد تصيب المتطرِّفين في الجانب الآخر ، المقابلين للغلاة الدينيين من الناحية الأخرى ، من المغالين في الانحرافات الفكرية والسلوكية , ممن ينبذون الفكرة الدينية من أصلها , ويعارضون سلوك التدين برمَّته ، حين يتشرَّب أحدهم فكرة عقدية أو مذهبية باطلة ، فتغلب على عقله وفهمه ، وتسيطر على عاطفته ومشاعره ، فتُغلق نفسُه عليها غلقاً محكماً , حتى ما يكاد ينفك عنها ، فيثبت المفتون عليها إلى آخر عمره , وربما تأذى بسببها , وعُذب من أجلها ، وسُجن وشُرِّد ، ومع ذلك يصبر على هواها ، مستعذباً ذلك ومستحسناً له ، حين تمكَّنت الفكرة الفاسدة من فؤاده ، وتأصَّلت في عمق نفسه ، فما عاد يبالي بما يلحقه من جرَّائها ؛ لذا فإن كلا التطرُّفيْن مذموم ، وغلو ممقوت .
ومن هنا فإن الفكرة الباطلة – أياً كانت - حين تتشربها النفس ، ويتلبَّسها الهوى ، فإنها تغلب على صاحبها ، سواء أكانت فكرة دينية أو غير دينية ، حتى تملك عليه عقله وفهمه ، وتسيطر على قلبه ومشاعره ، فلا يسلك المفتون إلا وفقها ، متحمِّلاً في سبيلها ما يصيبه من ضرر وأذى ، فتتحوَّل الفكرة الرديئة إلى مرض عضال فتَّاك ، يصعب تشخيصه بدقة , ويتعذر علاجه بسهوله .
إن إشاعة الفكرة الدينية المعتدلة ، والتأسيس المتين لها بين الطرفيْن الغاليين : من أولى مهمات التربية ، ومن أجلِّ أولويَّاتها ؛ إذ يستحيل على الناشئ أن يتبنَّى نهج الاعتدال من تلقاء نفسه ، دون أن تُبذر بذور الاعتدال في نفسه ، ثم تُسقى بأساليب التربية السليمة ، فإن الهوى غلاب ، والنفس متأرجحة الطبع ، فإذا سبقت الفكرة الرديئة إلى القلب الفارغ : تشبثت به ، وألقت بجذورها فيه ، حتى تتأصَّل وتقوى ، فلا يصدر عن صاحبها من الفهوم والسلوك إلا ما يوافقها .
وكذلك إذا سبقت الفكرة الحسنة ، أو النكتة الطيبة ، أو النظرة الموفَّقة : إلى قلب الإنسان النامي ، محمولة في ثوب تربوي طاهر ، ومحفوفة بالقدوة التربوية الصالحة ؛ فإنها تسرع إلى أعمق ما في نفسه ، فتبلغ جوهر الذات ، فتلقي بجذورها هناك ، وترمي بقواعدها هنالك ، فتترسَّخ متربِّعة على عرش الشخصية ، فلا يصدر عنها إلا ما يوافق الفكرة الحسنة ، وينسجم معها .
لذا فإن معالجة أزمة الغلو بنوعيه تفتقر بالضرورة إلى المنهج التربوي في التراث الإسلامي ، الذي يبني الإنسان المتكامل الشخصية ، المتوازن السلوك ، فيتولاه من أوَّل أمره ، ويتدرَّج به خطوة خطوة ضمن منهجه الرباني الفريد ، فيترقَّى به درجة درجة في سلَّم الكمالات الإنسانية ، فتنمو شخصيته من جميع جوانبها نموًّا شاملاً ومتوازناً ، حتى تصل إلى المرتبة التي قدَّرها الله تعالى لها ، وما لم يُمكَّن للمنهج الإسلامي من تولي تربية النشء ، وفق منهجه الرباني الفريد ؛ فإن مزيداً من التطرف والغلو - بطرفيه المذمومين القبيحين - هو مصير الجيل الجيد ، ولا تسأل حينئذٍ عن مصير الأمة وأحزانها .