الحمد لله المعز لأوليائه، المذل لأعدائه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا حول ولا قوة إلا به، فقد فوجئ المسلمون من جميع فئاتهم واتجاهاتهم في بلادنا بوفاة الداعية الإسلامي المعروف الشيخ جابر مدخلي، الذي أمضى حياته في سلك الدعوة، ومؤاخاة الدعاة، يشارك وينظم ويشرف، لا تكاد تفقده في نشاط دعوي، إما عضواً رسمياً، أو داعماً بجهد، أو حاضراً في دعوة، لا يتخلف عن أي نشاط متى دُعي إليه أو علم به، وما من لجنة من لجان الخير، أو مجلس من مجالس البر الرسمية أو الشعبية إلا وتجده عضواً عاملاً فيها، لا يتخلف عن اجتماع صالح يعود على المسلمين بخير إلا شارك فيه، قد ضرب بسهم في كل ذلك.
لقد عرفت الشيخ -رحمه الله- منذ عام 1404هـ حينما عُيِّنت إماماً لمسجد الأميرة الجوهرة بنت سعود الكبير، بجوار منزله بالعزيزية في مكة المكرمة، فمنذ ذلك الحين بدأت علاقتي بالشيخ، نلتقي معه في المسجد، فقد كان حريصاً على صلاة الجماعة، لا تكاد تفوته تكبيرة الإحرام في الصف الأول إلا نادراً، حتى في يوم إصابته، فقد صلى معنا الفروض كلَّها إلا الظهر؛ لارتباطه بعمله، حتى إذا كانت صلاة العشاء من يوم الأحد السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر لعام 1428هـ - وهي آخر صلاة صلاها – التفتُّ مـن المحـراب نحـو المصلين بعد السـلام، فإذا بالشـيخ خلفي في الصف الرابع -على غير عادته- قام يأتي بركعة قد فاتته، فتأملته لبضع ثوان على غير عادتي، وقد بدت على محياه إشراقة خاصة ما فهمتها إلا فيما بعد، فما لبثنا أكثر من نصف ساعة حتى فوجئ بعض المصلين من جيران المسجد بالشيخ مطروحاً مصاباً أمام داره، تسيل دماؤه، وقد فقد وعيه تماماً، فما لبث بعد ذلك إلا يسيراً حتى مضى إلى ربه، في ساعة مقدَّرة لا تتقدم ولا تتأخر.
لقد أمضى الشيخ -رحمه الله- حياته في جد لا هزل فيه، ونشاط دؤوب لا ملل معه، يندر أن يُوجد مثله في الشباب فضلاً عن الشيوخ، لا يكاد يعتمد في شؤونه الخاصة على أحد، يقوم بنفسه على حاجاته، حتى السيارة يقودها بنفسه حتى في يوم إصابته، لا يستعين بولد ولا سائق في خاصة نفسه، ولهذا خفي بعض شأنه على أهله وأولاده.
لقد كان الشيخ يشاركنا في أنشطة مسجدنا، يشجع ويدعم، ويحضر حفل عيدنا السنوي، ويلقي كلمة للمصلين، لا تكلُّف فيها، يأتي بها على سجيته، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحث على الخير، وربما اقترح الاقتراح للمسجد، فإن أخذنا به، وإلا تركنا فلم يصرَّ علينا ولم يُلح.
كان رحمه الله متواضعاً محبوباً من الجميع، يحبه الكبار والصغار، العلماء والعامة، حتى قال لي أحد الجيران، ممن هو في سن الشيخ بلغته العامية: "الشيخ جابر أبونا"، وكان يشارك الجميع في الأفراح والأحزان، ويجيب الدعوة إلا عن عذر.
ومن النوادر التي اتصف بها الشيخ، مما يعزُّ وجوده في كثير من المصلين في هذا الزمان: خشوعه في صلاته، فما رأيته قطُّ يلتفت في صلاته، ولا يتعدَّ بصره موضع سجوده، والإمام يمكنه -أكثر من غيره- ملاحظة ذلك في المصلين حين يقابلهم بوجهه بعد السلام.
لم يكن يخطر ببالي يوماً أن أكتب شيئاً عن الشيخ -رحمه الله- حتى بعد أن أصابه ما أصابه، إلا أن صورته، ووقع الفاجعة لم يغب عن مخيلتي إلا قليلاً، ولا سيما عند النوم، فقد انتابني الأرق والقلق، وربما نمت فاستيقظت، أحدِّث نفسي بخبره، حتى إذا كانت ليلة الأربعاء، ورغم تعبي وإجهادي استيقظت بعد نومي بساعتين، ووجدت في نفسي هواجس وخواطر بشأن الشيخ، لا تكاد تنقطع، لم أكن أشعر بها في حياة الشيخ، فلم أجد متنفساً لهذه الخواطر والهواجس الملحة إلا في الكتابة، فتناولت القلم وكتبت هذه الأسطر لعل الله أن ينفع بها الكاتب والقارئ.
إن الفضلاء يعيشون بيننا، ويحيون في وسطنا، فلا نشعر بهم شعوراً كاملاً نعرف به مكانهم على الحقيقة، حتى إذا مضوا وغابوا: انكشف مكانهم، وخلا مقامهم، وعندها يستيقظ الغافل منا للحقيقة، فليس له عندها إلا الترحُّم والثناء.
إن من رحمة الله بالشيخ أن حفظ له صحته إلى آخر عمره، فلم يُتعب أو يُثقل على أحد، يقضي شأنه بنفسه، ويمضي في حاجاته لا يستعين إلا بالله، حتى إذا حانت ساعته: ختمها الله له بالشهادة -كما نحسب ذلك والله حسيبه- وبعد فريضة أدَّاها جماعة مع المصلين في بيت الله، فمضى وهو في ذِّمة الله تعالى إن شاء الله.
لقد كان -رحمه الله- معتدلاً في التزامه، لا يحب التزمت ولا التشدد، يجمع ولا يفرق، قد اجتمع الكل على محبته، حتى إن الدعاة بجميع اتجاهاتهم ومشاربهم يجتمعون عليه ولا ينفرون منه، ويجدون عنده مساحة من القبول، ولا شك أن هذه سمة من سمات القيادة، التي تحتاجها الأمة في عصر الافتراق والتشرذم.
لقد كان الشيخ لا يتميز عن المصلين في مسجدنا بشيء، لا في لباس ولا في سلوك، يدخل المسجد بهدوء، ويخرج منه بهدوء، وغالباً ما يكون وحيداً، لا يرافقه إلى المسجد أحد، وما كنا نميزه عن غيره إلا بطول قامته، فكنا نميِّزه بذلك، حتى إذا سأل عنه من لا يعرفه وصفناه بطول قامته، فقلنا: اذهب فصل في مسجد الجوهرة، وانظر أطول من في المسجد فهو الشيخ جابر.
ومن الموافقات العجيبة والغريبة أن آخر ما كتبه الشيخ بخطه في مكتبته الخاصة في بيته حديث غسل الميت، الذي رواه الحاكم في المستدرك، وقال عنه: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غسل ميتاً فكتم عليه: غفر له أربعين مرة، ومن كفن ميتاً: كساه الله من السندس واستبرق الجنة، ومن حفر لميت قبراً فأجنَّه فيه (يعني دفنه وستره) أجرى له من الأجر كأجر مسكن أسكنه إلى يوم القيامة".
رحم الله الشيخ جابر، وأسكنه فسيح جناته، وخلفه في أهله وولده خيراً، وفضح الله أعداءه، وانتقم منهم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.