مبرِّرات القوامة

مقال شهر شوال 1435هـ

مبرِّرات القوامة

          الحمد لله الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى ، وجعل منهما رجالاً كثيراً ونساء ، حتى عمرت بهما الدنيا ، فكان منهما الأنبياء والصالحون ، والفقهاء والعابدون ، أحمده وأستعينه وأستغفره ، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمداً عبده ورسوله ، أما بعد .. فقد شاء الله تعالى أن تعمر الحياة بالإنسان ، من خلال التزاوج بين ذكر وأنثى ، فيكون من ذلك تكاثر النوع الإنساني ، وقيام العمارة على الأرض ، لتكون مستقر البشر ومتاعهم إلى حين .

        ولما كانت غاية التكاثر الإنساني لا تحصل إلا بقيام علاقة عميقة متداخلة بين ذكر وأنثى ، يستحيل أن يقوم مثلها بين اثنين : كان لا بد من قوى نفسيَّة لدى الطرفين تتجاوز بهما حواجز الذات ، وعوائق النفس ، ليصل كلٌّ منهما إلى أعمق ما في صاحبه ، فينتج عن ذلك الولد ، الذي يعتبر وحدة البقاء الإنساني، ومحور العلاقة بين الجنسين ، والهدف الأكبر من قضيَّة التزاوج .

        وبحصول التلقيح ، وبداية انطلاق بذرة الحياة في الرحم : تخوض المرأة الحامل جمعاً من الأطوار الأنثويَّة المختلفة ، وتعيش عدداً من التغيُّرات الفسيولوجيَّة المتنوِّعة ، وتقاسي كثيراً من المتاعب الجسميَّة والنفسيَّة والمزاجيَّة المصاحبة للحمل ، التي تضع المرأة الحامل على حافَّة الموت .

        وبالمخاض والوضع تشرع الأم في مرحلة جديدة من معاناة رعاية المولود وحفظه ، وما يترتب على ذلك من دوام المرابطة والملازمة ، وما يلحقها من مراحل النمو الطبيعيَّة ، التي تتطلب مكابدة العملية التربويَّة ، ومسئوليَّة التنشئة الاجتماعيَّة ، حتى يشتدَّ عود الطفل ، ويبدأ في الاعتماد على نفسه .

          إن مجموع هذه المسئوليَّات الأموميَّة والتربوية ، وما يتبعها من مهام الإدارة الأسريَّة وخدماتها : تستهلك من المرأة جلَّ وقتها ، وثمرة جهدها ، وغالب قدراتها ، مما لا يسمح بمزيد مسئوليَّات تنوء بحملها فوق ما أنيط بها .

         ومن هنا وعند هذا الحدِّ الفاصل بين الرجل والمرأة : كان لا بد من تقسيم العمل بين الجنسين ، وتوزيع المهام الإداريَّة بينهما ؛ فإن الحياة الإنسانيَّة لا تقوم بمجرَّد التناسل والرعاية الأسريَّة ، وإنما تتخطى ذلك إلى مهام الكسب ، والمشاركة العامة في عمارة الحياة ، التي تتطلب بالضرورة نوعاً آخر من القدرات العقليَّة والنفسيَّة والجسميَّة ، غير تلك التي يتطلَّبها الأداء الأسري ؛ لذا كانت الحكمة الربَّانيَّة في اختلاف البناء الفطري بين الجنسين ، فأحدهما مهيَّأ بما يناسبه للقيام بمهام الشأن الأسري ، والآخر مهيَّأ بما يلائمه للقيام بمهام الحياة العامة .

         وبناء عليه فقد خلق الله تعالى الرجل بقدرات شخصيَّة خاصَّة ، أعدَّته للانطلاق في الحياة العامة بلا عوائق ، وهيَّأته للاضطلاع بمهام إداريَّة وتربويَّة غير تلك التي خُصَّت بها المرأة ، مما أتاح للجنسين فرص التكامل الإداري والتربوي لبناء الحياتين معاً : الداخليَّة والخارجيَّة ، أكثر بكثير مما يُظنُّ أنه تعارض أو اختلاف أو تضاد .  

        وعلى الرغم من قيام هذا التقسيم الفطري في المهام بين الجنسين ضمن مساحات إنسانيَّة كبيرة ، إلا أن أجزاء من نقاط الاشتراك بينهما، وساحات من دوائر التماس بينهما لا تزال حاضرة على الدوام ؛ فلا يتصوُّر الاستغناء عن الرجل في مهمة الإنجاب ورعاية النسل ، كما لا يمكن الاستغناء عن المرأة في العديد من قطاعات الحياة العامة ، غير أن المتأمِّل البصير يجد بوضوح أن ساحات الاشتراك في المهام بين الجنسين ضيِّقة وصغيرة ، في مقابل حجم واتساع ساحات الاختصاص بينهما ؛ ولهذا يبرز بجلاء التباين الكبير بين الجنسين في الاهتمامات والاتجاهات والاختيارات ، رغم ما أتيح لهما في هذا العصر من حقِّ الاختيار الشخصي الحر في تبنِّي الآراء ، واختيار الاتجاهات ، فما تزال الفروق بينهما واسعة وكبيرة .

         وانطلاقاً من هذه القاعدة الفطريَّة بين الجنسين برزت مسألة القوامة ، في تولي جنس الرجال مهام إدارة الحياة ، والقيام بشؤون الرعاية على جنس النساء ، بما فضَّلهم الله به عليهن من القدرات ، وبما أنيط بهم من التكاليف ، ليتولَّوا معاناة المسئوليَّات العامة ، ويتحمَّلوا تبعات القيادة الأسريَّة ، فهي مهمات تكليفيَّة أكثر منها مهمات تشريفيَّة أو تسلُّطيَّة ؛ إذ إن الغُنم بالغرم .

         إن مهمات : بذل المهر ، وتقديم النفقة ، ومسئوليَّة الرعاية ، وحق الطلاق ، إضافة إلى طبيعة الرجال الفطريَّة في : قواهم البدنيَّة ، ونوع فهومهم العقليَّة ، وقدراتهم النفسيَّة والمزاجيَّة ، كلُّ ذلك يؤهِّلهم بالضرورة لقيادة الأسرة ، وتولي مهام رعايتها ، فلا يتصوَّر أن يتأهَّل الرجل بكلِّ هذه القدرات ، ويتكلَّف كلَّ هذه المهمَّات ، ثم يكون في حدِّ المساواة مع المرأة ، فضلاً عن أن يكون دونها في ذلك .

         ولا يصحُّ في الشأن الاجتماعي التعويل على حالات الشذوذ والتطرُّف في حياة بعض الناس ؛ سواء في تسلُّط بعض النساء على الرجال ، أو تفوُّقهن في القيادة الأسريَّة ، أو قيامهن بالنفقة ، أو اطلاعهن بمهام إداريَّة عامة ، فكلُّ ذلك لا يتجاوز حدَّ الندرة ، التي لا تغيِّر اتجاه الخطاب الشرعي ، كما لا تغيِّر شيئاً من الطبيعة الفطريَّة التي جُبل عليها الجنسان ؛ إذ الحكم يُجرُّ على الأغلب ، والنادر لا حكم له .

         وأمام هذا المفهوم الإسلامي للقوامة : ينتصب الغرب بخلفيَّاته الدينيَّة المظلمة ، ليوجِّه العالم نحو أطروحاته الثقافيَّة الجديدة بشأن المرأة ، فهو حائر في هذا الصدد ، بين ركام تراث دينيٍّ مخجل ، قد عادى العقل ، وجافى المنطق ، ولا سبيل له للبراءة منه ، وبين قوانين ووثائق وإعلانات حديثة يتغنى بها ، ويعتبرها ثروة من إنجازاته الحضاريَّة الحديثة ، متجاهلاً في كلِّ ذلك تراث الأمم الأخرى وحضاراتها ، وبخاصَّة إنجاز الأمة الإسلامية الحضاري في الجانبين : الاجتماعي والأسري ، والتطابق الكامل بين مدلولات النصوص الشرعيَّة المحكمة ، وبين مقتضيات التجربة الاجتماعيَّة ، ومكتشفات العلم الحديث .

         لقد طفح تراث الثقافتين اليهوديَّة والنصرانيَّة ، بما لا مزيد عليه من المفاهيم والمعتقدات الخاطئة والشاذة بحق الأنثى ، التي انعكست بصورة سلبيَّة قاتمة على السلوك الاجتماعي العام تجاهها ، ضمن عصور سُمِّيت في ثقافتهم بالمظلمة ، في الوقت الذي كان ينزل فيه القرآن بما ينصف المرأة ، ويساوي في الإنسانيَّة بينها وبين الرجل ، ويخصُّها بحزمة من الأحكام الشرعيَّة المحكمة والملزمة ، التي تحفظ كرامتها ، وتعلي من شأنها ، وتضمن حقوقها الاجتماعيَّة والأسريَّة والاقتصاديَّة .

          وحتى في الوقت الذي تحرر فيه الغرب من ربقة ثقافته الدينيَّة المتطرِّفة ، فما يزال سلوك اضطهاد النساء فيهم قائماً ، ولكن هذه المرة ضمن أنماط ثقافيَّة حديثة : سريَّة وعلنيَّة ، تتقبَّل استخدام النساء في كلِّ شيء ، فلا تستهجن من ذلك شيئاً ، حتى قمَّ الشوارع ، وخوض المناجم ، والترفيه عن السيَّاح ، والمتاجَرة الرياضيَّة ، في مقابل استهجان مسئوليَّات المرأة الفطريَّة ، في الإنجاب والرعاية الأسريَّة ، مع الأزِّ المستمر في نفسها ، والنفخ المترادف في روعها ، برفض قيام الرجل عليها ، أياً كانت قرابته منها ، لتنفرد هي بقراراتها ، وتستقلَّ وحدها باختياراتها ، فتتحرَّر بذلك من قيود الأسرة والمجتمع ، لتنطلق حرَّة في فضاء الحياة ، لا تقيِّدها علاقة ، ولا تحكمها قرابة .

         ولم تكن هذه الانطلاقة النسائيَّة لتبلغ مداها في المجتمعات الحديثة حتى أَسست لها القوانين والتشريعات الوضعيَّة ، وأيدتها المنظَّمات والهيئات الدوليَّة والإقليميَّة ، وروَّجت لها المؤتمرات والندوات ووسائل الإعلام .

         وما هو إلا زمن يسير حتى أدرك العقلاء أن وثائق وإعلانات وتشريعات حقوق النساء نهج دعائي ، أكثر منه سلوك تطبيقي ، فما ازدادت النساء – لاسيما في العالم الثالث - إلا بؤساً إلى بؤسهن ، وشقاء إلى شقائهن ، وأصبحت الحاجة أشدَّ ما تكون إلى البديل الإسلامي ، إلى الرسالة المحمديَّة الخاتمة ، التي حُشيت بالرحمة ، ومُلئت بالإحسان ، لتعمَّ بذلك جميع الخلق .

         ولعل في المقابلة بين دين الإسلام والديانات الأخرى في مسألة المرأة عموماً ، وفي قضيَّة القوامة خصوصاً : ما يجلَّي الصورة ويوضِّح الحقيقة ، ليثبت بالأدلة من خلال البحث المقارن رفعة الإسلام ، وعلو مكانه على الدين كلِّه ، وأنه الدين الحق ، وأنه الأنسب والأصلح للبشريَّة ، في إحقاق حقوق الخلق ، وكفِّ المظالم عن كلِّ فئات الناس ، لا سيما فئات المجتمع المستضعفة ؛ من النساء والأطفال والمساكين ، التي تنحطُّ عليهم – في العادة - المظالم الاجتماعيَّة ، والمآسي الاقتصادية والسياسيَّة .

         ولئن كانت المقارنة بين الإسلام الحق وغيره من الديانات الباطلة والمحرَّفة أمراً مرفوضاً لما فيه من التنزُّل للباطل ، إلا أنه أبلغ في إثبات الحقيقة ، ودحض الزيف ؛ فإن الأشياء بضدِّها تتمايز ، والضدَّ يُظهر حسنَه الضدُّ ، وما زال العلماء والباحثون في كلِّ عصر ، يقابلون التشريعات الإسلاميَّة بغيرها من الأنظمة والقوانين ، فيظهر بذلك الحق لمريديه ، وتقوم الحجَّة على رافضيه .