مقال شهر شعبان 1435هـ
الرابطة بين الدين والدنيا في مفهوم الإسلام
الحمد لله ، الصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد .. فإن الناظر في تاريخ الأمة الإسلاميَّة الحضاري ، لا يداخله شكٌّ في الاهتمام البالغ ، والعناية الكاملة ، التي حظي بها قطاع التعليم ، وما ناله رجاله وطلابه ، ومناهجه ومنشآته ، من الرعاية الخاصة ، على المستويين الرسمي والشعبي ، مما كان له الأثر الأكبر في تفوُّق العلوم الإسلامية لمدى قرون متعاقبة ، وازدهار حضارتها لأزمنة طويلة متتالية .
لقد استطاعت العقليَّة الإسلامية - في أول انطلاقتها - أن تتعاطى - باحترافيَّة كاملة - مع المنتج العلمي الأجنبي ، بالوقوف عليه ، وحفظه واستيعابه ، ومن ثمَّ إنتاجه من جديد ، في ثوب إسلامي حضاري ، يخدم الإنسان ، ويصادق البيئة ، ويوحِّد الإله سبحانه وتعالى ، وذلك في الوقت الذي عجزت فيه أوروبا الحديثة ، أن تتقدَّم في المعرفة العلميَّة خطوة واحدة ، حاملة معها معتقداتها ومفاهيمها الدينيَّة .
لقد ارتبط إنجاز الأمة الإسلاميَّة الحضاري بالدين ، ارتباطاً أعيى الغرب فهمه ؛ لما قد استقر في أذهانهم من تعارض الدين مع العلم ؛ فالدين في مفهومهم : مجموعة من التصوُّرات والمفاهيم غير المعقولة ، وأما العلم عندهم فهو الحقائق الملموسة والمحسوسة ، مما يمكن مشاهدته بالأعين ، وجسُّه بالأدوات ، وقياسه بالمعايير ، وما وراء ذلك – في نظرهم – خرص من الأوهام ، التي لا يُبنى عليها يقين .
وعلى هذا النهج العلماني درج الغرب الحديث ، وأراد أن يسوق العالم معه ، إلا أن الفكرة الإسلاميَّة - التي تغلغلت في كلِّ مفاصل الفكر والسلوك عند المسلمين – تأبى الاتجاه العلماني ، وتنبذه بقوَّة ؛ فإنه لا فرق في عقيدة المسلم ، بين ما هو ديني ، وبين ما هو دنيوي ؛ لأن الدين والدنيا – في حسِّ المسلم – قطعة واحدة ، أو هما وجهان لعملة واحدة ، لا يفصل بينهما شيء ؛ فالدين يأمر بالصلاة ، والصيام ، والزكاة ، والحج ، ونحوها من الشعائر التعبُّديَّة ، ويعتبرها فروض أعيان ، تجب على كلِّ مكلَّف بعينه ، وفي الوقت نفسه يأمر بالتجارة ، والصناعة ، والفلاحة ، والهندسة ، والطب ، ويعتبرها فروض كفايات ، تجب على جملة الأمة ، إذا قام به بعضهم - على وجه الكفاية - سقط الإثم عن الباقين ، ونال القائمون به أجور من خلفهم ، ممن تخلَّف عن هذا الفرض ، فأي مكان يبقى للفكرة العلمانية ، حينما يُلحق الدين الإسلامي الإثم بالمفرِّطين في عمارة الدنيا ؟
غير أن ما يدعو إلى العجب : وجود فئات من المسلمين ، تعتقد جازمة أنه لا يجوز الحديث عن الدين كمرجع للفصل في شؤون الحياة ، باعتبار الدين – في نظرهم - شأناً شخصيَّا ، لا دخل له في حياة الناس العامة !
إن الذي فات هؤلاء فهمه : هو أن الدين يعبِّر عن إرادة الله تعالى الشرعيَّة من عباده ، فهو كلمته التي ضمَّنها كتبه المباركة ، التي أنزلها وحياً على رسله الكرام ، فليس للناس في ذلك إلا الطاعة ؛ لأنهم عبيد مكلَّفين ، والله هو وحده المالك المتصرِّف ، فرفض حكم الدين في الشأن : الاجتماعي ، أو الأخلاقي ، أو الاقتصادي ، أو السياسي ، هو في الحقيقة رفض لإرادة الله تعالى الشرعيَّة ، مما يعرِّض المعترض لخطر الردة عن الإسلام .
بيد أن بعض العلمانيين العرب يناور في ذلك ليتَّقوا خطر التكفير ، فيزعمون أنهم حريصون على طاعة الله تعالى ، غير أنهم عاجزون عن معرفة مراده الشرعي من بين أطباق التراث الإسلامي المتراكمة ، والنصوص الكثيرة المتعارضة ، وأقوال الفقهاء المتعدِّدة المتنازعة ، بمعنى أن حكم الله تعالى مجهول لهم !
وفي الحقيقة أن أزمة العلمانيين العرب لا تنحصر فيما خفي عليهم من وجوه الأدلة الشرعية ، ولا فيما تنازع فيه الفقهاء ، ولا فيما سكت عنه الشارع الحكيم ، وإنما تكمن معضلتهم الرئيسة في رفضهم مبدأ الاستظلال الاجتماعي بالمظلَّة الدينيَّة ، وإلا من يخفى عليه حكم الشرع في : الخمر ، والزنا ، والقمار ، والربا ، والقتل ، والسرقة ، والغش ونحوها من الممنوعات الشرعيَّة ، ومن تراه يجهل حكم الله تعالى في وجوب : الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، ونحوها من محكمات الشرع الحنيف ، مما هو موضع إجماع المسلمين ، مما عُلم بالضرورة من دين الله تعالى ، فلو تقيَّد العلماني مخلصاً بضروريات الدين وحدها لعُدَّ من الصالحين ، بل لو الْتزم العلماني من الدين بما يعرفه العاميُّ منه لأفلح ، ولكنهم للأسف يقاومون الفكرة الدينيَّة من أساسها ، وينازعون في مبدأ الرجوع للدين كمصدر للتشريع ، مما يعرِّضهم لخطر الردَّة عن الدين ، بعلم منهم أو بجهل منهم .