مقال شهر جمادى الآخرة 1435هـ
القافزون على المعرفة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبينا وسيدنا رسول الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فقد استقر في الأذهان أن المعرفة عند الإنسان تراكمية الطبيعة ، بمعنى أنها تبنى متدرِّجة شيئاً فشيئاً ، مبتدئة بالمعلومات القليلة والأولية السهلة ، إلى المعلومات الكثيرة الأكثر صعوبة .
والإنسان في مسيره هذا ينضج فكرياً ، ويصقل ذهنياً ، ويكتسب – بصورة أفضل - مهارات النظر والتأمل ، وما زال الإنسان يتأهل عقلياً لما هو أكبر وأفضل من خلال حجم التراكم العلمي ، وسعة التجارب الشخصيَّة ، التي تقدِّمه – بصورة مستمرة - إلى ما هو أهم وأخطر من قضايا الفكر والنظر ، حتى لربما يبلغ الفطن منهم أعلى مراتب الفهم ، وأجود قدرات البيان ، فلا تعوزه حينئذٍ معارف الآخرين ، إلا بقدر ما يعوز البنزين الشرارة اليسيرة للاشتعال .
ولئن كان أمثال هؤلاء في الحياة الإنسانية قليلاً ضمن حدِّ الندرة ؛ فإن من دونهم من الأمثل فالأمثل كثير ؛ فإن الزاوية الحادَّة تضيق وتصغر ، فإذا انفرجت كبرت واتسعت ، وكذلك حال القدرات العقليَّة بين الناس : تشحُّ إذا تفوَّقت ، وتتسع إذا تواضعت .
ورغم وضوح هذا المعنى في الأذهان ، واستقرار مقتضياته الطبيعية في تفاوت قدرات الناس الفكريَّة ، وتباين استعداداتهم الفطريَّة - ومع ذلك - فإن أناساً من محدودي القدرات العقليَّة ، ومن متوسطي الثقافة ، لا يعجبهم إلا أن يكونوا فلاسفة المجتمع ، ونظَّار الناس ، فلا يرتاح بال أحدهم إلا أن يضرب بسهم في كلِّ مجال ، حتى إن الموضوعات العلميَّة التي ما سبق أن سمع بها : ما إن تطرح عليه حتى يغرف لها من ضحل فهمه ، ما يظن أنه قد أبلى بطرحه ما يقنع الحاضرين ، فالموضوعات الجديدة - أياً كانت – تكفي لإثارته العقليَّة ، فينطلق يدلي بما ينقدح في ذهنه من المفاهيم ، التي غالباً ما تأتي غريبة عن موضوع المناقشة .
وإن من غرائب هذه الفئة من الناس : الولع بالمفاهيم الجديدة ، التي قد تأتي مصادمة للأفكار الاجتماعيَّة السائدة ، لا سيما المتعلِّقة بالتصورات الدينيَّة المحترمة ، فينطلق أحدهم بحماسة لينصر طرحاً فكريًّا أو دينيَّا شاذاً ، لا يعرف أبعاده الفكرية ، ولا يقدِّر خطورته الدينيَّة ، غير أنه يحقق له حلم ذاته بالتميُّز والنبوغ ، فيتجاوز به - هذا الانتصار للطرح الشاذ - مرحلة البحث والاطلاع العلمي ، فيقفز على المعرفة ، متجاوزاً هذه المرحلة الضروريَّة لبناء العقليَّة العلمية ، ومتوهِّماً أنه يصطفُّ مع الأذكياء الفاهمين ، وأن ما ينقدح في ذهنه من الفهم هو الحق ، الذي لا يحتاج معه إلى بحث أو استقصاء ، فهو يدرك القضايا المطروحة بمجرَّد سماعها !
وإن من أسوأ ما منيَ به هؤلاء القافزون : تورُّطهم في تبني بعض الأطروحات الدينيَّة الشاذة ، التي يبتدعها بعض المنتسبين إلى الفرق الضالَّة ، فينبري القافز منتصراً لإحدى هذه الأطروحات حين تعرض عليه ، عبر بعض القنوات الفضائية ، أو مقاطع الفيديو ، أو شبكات التواصل الاجتماعي ، ظنًّا منه أنه استوعب الفكرة ، وأنها جديرة بالقبول ، وهو في حقيقة الأمر لا يعدو أن يكون ضحيَّة فتنة فكريَّة ، لم تتحمَّلها قدراته العقليَّة المتواضعة ، ولم تدركها ثقافته العلميَّة المحدودة .
ومن ذلك تبنِّي بعضهم تأويل بعض المعتقدات الإسلامية التي جاءت حسيَّة تأويلاً معنويًّا ؛ كتأويل موعود الله تعالى بنعيم الجنة تأويلاً معنويَّا ، أو الذهاب بأخبار المسيح الدجال بعيداً عن صورة الشخصيَّة البشريَّة التي وصفتها السنة الصحيحة ، أو تبنِّي فرية ( القرآنيون ) ، باعتماد القرآن وحده للاعتقاد والتشريع ، ورفض السنة مطلقاً ، أو الدخول بالآراء الشخصيَّة القاصرة في خلاف الصحابة ، أو الطعن المباشر في شخصيَّة الصحابي الحافظ أبي هريرة رضي الله عنه ، باعتباره راوية الإسلام الأول ، فينطلق هؤلاء القافزون متبنِّين هذه الأفكار ونحوها ، وليس ذلك عن بحث وتنقيب بأدوات المعرفة العلميَّة المعتبرة ، وإنما بدافع الهوى المنبعث من الفتنة بالفكرة الجديدة ، والذي يمتطي قصور الشخصيَّة العلمي ، ورغبتها في الإنجاز والبروز .
وهكذا يعيش هؤلاء خداع التفوُّق ، من خلال ممارسة القفز على المعرفة ، ظنَّا منهم أن مثل هذا السلوك الفكري الشاذ يجدي في تبوُّؤ الذات الناقصة مكانة اجتماعية أفضل .
وقد وجد المغرضون في شخصيَّات هؤلاء القافزين أرضاً خصبة لبذر الشبه الفكريَّة والدينيَّة المثيرة ، التي تستهوي قلوبهم ، وتستلب عقولهم ، حين استسلموا لأهواء أنفسهم ، وانقادوا لداعي البروز الاجتماعي ، قبل مكابدة الدرس العلمي المتخصِّص ، الذي يأتي ضرورة لا بد منها للتأسيس لمرحلة الاستقلال بالنظر الفكري .
ولقد وجد القافزون في محركات البحث الحديثة ما ظنُّوا معه أنهم أهل للاختيار الفكري ، والتقويم العلمي ، وما عرف هؤلاء أن الوصول إلى المعلومة لا يكفي وحده لبناء الشخصيَّة العلميَّة المستقلَّة ، حتى تنضم إليها قائمة من الملكات العقليَّة ، والقدرات العلميَّة ، والمعاناة البحثيَّة ، مع تاريخ عريق من تراكم التجارب الميدانيَّة ، والممارسات التطبيقيَّة ، فإن الرجل قد يتقن حفظ القرآن ، ولكنَّه يعجز عن تفسيره والاستنباط منه ، وقد يحفظ الكثير من الحديث النبوي ، ومع ذلك لا يجيد فقهه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نضَّر الله امرأً سمِع منَّا حديثاً فبلَّغه غيرَه ، فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقَه منه ، ورُبَّ حاملِ فقه ليس بفقيه ) ، فإذا كان من بين هؤلاء – على جلالة أقدارهم – من يحفظ ويقرأ ويروي ، ومع ذلك لا يحسن توجيه فقه الكتاب والسنة : أفلا يكون من بيننا من يعرف المعلومة ، ثم لا يحسن فهمها ؟
إن انتشار المعلومات في هذا العصر ، واتساع رقعة المنشورات والمدوَّنات - وهو ما عُبِّر عنه في الحديث النبوي بانتشار القلم في آخر الزمان – فإن ذلك لا يعني أبداً حصول الفهم ، فقد صرَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم بانتشار الجهل في آخر الزمان ، وهذا من أعجب أحوال آخر الزمان ؛ أن يتخلَّف الفهم عن المعلومة ، فتتاح المعلومة وتتيسَّر ، ويشحُّ الفهم ويتعسَّر .