36- المبرر التربوي والشرعي لغطاء وجه المرأة
منذ فجر التاريخ الإنساني والمجتمعات البشرية تمارس مزيد ضبط أخلاقي على سلوك النساء، وتطالبهن – أكثر من الرجال – بمسالك أخلاقية ومعايير سلوكية، لا سيما في المسألة الجنسية، فليس بغريب على الشرائع السماوية أن تؤكد على هذه المسألة، وتأتي موافقة للخبرات الإنسانية الصحيحة فتلزم النساء بمزيد تحفُّظ وتستُّر، رغبة في تحقيق الطهارة الروحية، والسلامـة الأخلاقيـة، وهـذا ما عبَّر عنه المولى عز وجل حين وجَّه نسـاء النبي صلى الله عليه وسلم– وعموم النساء المسلمات من ورائهن–بالاحتجاب عن الرجال الأجانب؛ لما في ذلك من طهارة القلوب، وسلامة السلوك، فقال سبحانه وتعالى: {... وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ...}33/53،فعلى الرغم من الخلاف الفقهي في مسألة كشف المرأة عن وجهها أمام الأجانب من الرجال؛ فإن الإجماع قائم على وجوب ستره عند خوف الفتنة وكثرة الفساق، وحتى بعض المعاصرين، ممن يرون جواز الكشف: يُلزمون المرأة بتغطية وجهها إذا ترتب على ذلك مفسدة، كنظرة الوقح المريبة، أو كلمته البذيئة، حتى قال أحد المتحمِّسين لكشف وجه المرأة، وعدم استحباب ستره : " ... لا نغفل أن الستر في بعض الظروف الخاصة بالأفراد قد يكون مندوبًا، وهذا أمر لا يأخذ حكماً عاماً، لكنه يخضع لتقدير الفرد المؤمن؛ ذلك مثلاً عند تأذي المرأة تأذياً بالغاً من نظرات محملقة منكرة، أو عند إدراكها أنالأمر يتعدى النظرات العابرة إلى فتنة مخوفة توشك أن تقع "، بل إن بعض العلماء ممن يجيز للمرأة الكشف عن وجهها : يتشدَّدون في خروجها من بيتها حتى إلى المسجد أو لصلاة العيدين بحجة فساد الزمان، فهؤلاء وإن أجازوا للمرأة الكشف عن وجهها أمام الأجانب فقد حجبوا ذاتها عن البروز الاجتماعي ، مما يدل على أن كثيراً من المجيزين للكشف لا تتعدى آراؤهم الفقهية حدود المناقشة العلمية فحسب، دون الوصول بها إلى ساحة التطبيق الاجتماعي.
ولعل مما يُوضح المسألة بصورة أفضل : إجماع العلماء على حق المرأة في أن تسدل الخمار على وجهها حال الإحرام عند خوفها من نظر الرجال الأجانب، في الوقت الذي أجمعوا فيه على أن المرأة المحرمة لا تغطي وجهها، فدلَّ على أن الشريعة لا تقصد إلى كشف وجوه النساء للأجانب إلا حال الضرورة أو الحاجة التي لا بد منها للمرأة في حركتها الاجتماعية العامة، أما في حق نساء النبي صلى الله عليه وسلم– خاصة – فإنهن لا يكشفن مطلقاً لأي أمر كان، وهذا هو الفارق بينهن وبين باقي النساء المسلمات، يقول ابن عباس رضي الله عنهما في حق المرأة المحرمة: " تدني الجلباب إلى وجهها ولا تضرب به"، وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها في حقها : "... تسدل الثوب على وجهها إن شاءت"، ولما دخلت عليها إحدى النساء في يوم التروية في الحج تسألها: " يا أم المؤمنين، هنا امرأة تأبى أن تغطي وجهها وهي محرمة؟ فرفعت عائشة خمارها من صدرها فغطت به وجهها"، وحتى الكفان من المرأة في حال الإحرام فقد وجِّهت لخضابهما بالكامل دون نقش أو تطريف حتى لا يظهر لون بشرتها للأجانب حين مُنعت من لبس القفازين ، وهذا في الجملة يؤكـد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة..."؛ يعني يُستحى من ظهورها كما يُستحى من العورة إذا ظهرت، وقد مال بعض القانونيين إلى اعتبار وجه المرأة عورة لا بد من صيانته وستره ؛ لأن " ملامسته بما يدل على توافر الباعث الجنسي هو من قبيل هتك العرض ".
وعلى الرغم من ميل بعض العلماء إلى أن وجه المرأة ليس بعورة، فإنهم مع ذلك لا يجيزون نظر الأجنبي إليه من أجل خوف الفتنة، لا سيما إذا كان نظره بشهوة، يقول ابن القطان – وهو ممن يرى جواز كشف وجه المرأة -: " واتفقوا على رد البصر عن غير الحرائم، والزوجات والإماء"، وحتى الأمة المملوكة التي لم يلزمها الشارع الحكيم بالجلباب، ولا بتغطية وجهها أو رأسها إجماعاً، فإنها مع ذلك تُؤمر بالنقاب إذا كانت جميلة فاتنة، محافظة على مشاعر الرجال من الإثارة، وقد نفى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاباً حسن الوجه إلى البصرة حين خشي من افتتان نساء المدينة به، فإذا ساغ لعمر رضي الله عنه أن يفعل ذلك برجل لم يُؤمر أصــلاً بالاستتار، فكيف تراه يصنع بشابة جميلة أسفرت عن وجهها، تتعرض للرجال في الطريق، وقد أُمرت بالستر والخفر؟! لا سيما وأن المولى عز وجل قد ندب القواعـد من النساء – فضلاً عن الشابات – إلى تمام التستر وترك الرخصة في وضع الجلابيب.
وأما حديث أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما – المتضمن جواز كشف الوجه واليدين، فهو مع كونه ضعيفاً من جهة السند، فإنه وإن صحَّ سنده عند بعضهم:يُحمل على مرحلة ما قبل نزول حكم الحجاب؛ فإن سورتي النور والأحزاب المتضمنتين لأحكام حجاب النساء من آخر ما نزل من القرآن في المدينة، وبما فيهما من أحكام الحجاب نسخت أحوال النساء السابقة ؛ حتى عمد النساء إلى أغلظ أكسيتهن فاختمرن بها، وقد وصفت عائشة رضي الله عنها رؤوسهن - حين رأت منظرهن – بالغربان في سوادها، وهذا عين ما فهمته أسماء رضي الله عنها – صاحبة حديث كشف الوجه والكفين - فقد كانت تغطي وجهها حتى في حال الإحرام، فقد ثبت عنها أنها قالت: " كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام"، فهذا آخر ما انتهى عليه أمر الحجاب زمن النبوة، لا سيما وأن أسماء رضي الله عنها ليست من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كانت ترى أنها مأمورة بغطاء وجهها حتى في الإحرام.
وأما القول بأن ضرب الخمار في قوله تعالى:{... وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ...}24/31 ، هو لتغطية فتحة الصدر فحسب، وهو ما عبر عنه القرآن بالجيب، فهذا لا يصح من الجهة العملية؛ إذ الوجه يتوسط الرأس والصدر، وهما الموضعان الواجب تغطيتهما بالاتفاق، فتغطيتهما – من الجهة العملية – تستلزم تغطية الوجه معهما، وأما من الجهة التاريخية فإن الأمر بتغطية الصدر قد سبق في المرحلة المكية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر به بناته حتى قال مرة لزينب رضي الله عنها بمكة: " يا بنية خمري عليك نحرك"؛ مما يدل على أن الأمر بالحجاب في المرحلة المدنية كان يحمل معنىً إضافياً أكثر من مجرد تغطية الصدر؛ لهذا ذهب جمهور المفسرين إلى أن الحجاب تغطي به المرأة وجهها.
وأما حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما، حين صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجهه عن المرأة التي كان ينظر إليها وتنظر إليه ؛ فإن الروايات الواردة ليس فيها تصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها، ويعلم من حال الأعراب عدم انضباطهم بكمال التستر، فقد يُرى من وجهها شيء مع تسترها، فكل هذه الاحتياطات الشرعية قُصد منها المحافظة على الأخلاق، ودرء الفتنة، وكفُّ المثيرات المؤدية للمفاسد الخلقية في المجتمع.
ثم إن وجه المرأة أكثر ما يجذب نظر الرجال الأجانب، وهو أعظم مواضع جمالها من جسمها، وهو أفضل وأقوى وسائل التواصل البشري، وعليه تكون درجة الفتنة، والميل العنيف نحو المرأة ؛ ولهذا تتعرض المرأة الجميلة الفاتنة أكثر من غيرها للاغتصاب ؛ لذا لا تكشف المرأة المشتهاة للأجانب إلا لمن لا إرب له من الرجال، ممن لا يقوى على النساء ، ولا يكون منه خطر عليهن.
ومن ألطف ما ينقل من أخبار حرص الصالحات على أنفسهن من نظر الرجال إليهن: خبر فاطمة بنت محمد السمرقندي، المتوفاة في نهاية القرن السادس الهجري، زوجة أحد الفقهاء المقربين من أمير البلاد، وذلك حين علم الأمير بإلحاحها على زوجها بالسفر، فأرسل إليها خادمه – بعلم زوجها- حتى يقنعها بعدم السفر، فلما جاء الخادم إلى بيتها لم تأذن له، واحتجبت منه، وأنكرت دخوله عليها، وأرسلت إلى زوجها تعاتبه في ذلك، وتقول له : " بَعُد عهدك بالفقه إلى هذا الحد، أما تعلم أنه لا يحلُّ أن ينظر إلي هذا الخادم، وأيُّ فرق بينه وبين غيره من الرجال في جواز النظر ؟ " .
إن حجاب المرأة في العموم، وغطاء وجهها على الخصوص: يحجز بينها وبين المتطفلين من الرجال، فلا يجرؤ أحدهم على مراودتها، أما حين تكشف لهم عن وجهها فإنها تمهِّد الطريق إلى نفسها، وتغري المتشوِّق لمراودتها، تقول فاطمة بنت جودت باشا، المولودة عام 1279هـ : " لما كانت النساء عندنا متحجبات كان الاجتماع بهن مستحيلاً على الرجال "؛ ولهذا لما كشفت عن وجهها في بداية القرن العشرين – بعد قرون طويلة سابقة من الاحتجاب- لم تلبث طويلاً أن كشفت عمَّا أجمع المسلمون على وجوب ستره من بدنها ، حتى ظهرت المرأة العربية: الممثلة، والمغنية، والراقصة، وبائعة الهوى، وبلغت الجرأة بمجلة آخر ساعة المصورة في عددها (57) في يوم الأحد (11) من أغسطس من عام 1935م أن نشرت صورة امرأة عارية، وكتبت تحتها – بكل وقاحة – : " هذه امرأة من مصر وليست من فرنسا"!! وقد كانت مصر وتركيا من أوائل الدول التي تمردت فيها كثير من النساء على الحجاب، وهذا الواقع النسـوي المتردي علم من أعلام نبوَّته – عليه الصلاة والسلام – حين أخبر في أحاديث كثيرةعن انفلات عقد النساء في آخر الزمان، وخروج كثير منهن عن حدود الشرع الحنيف.