19- الترويح النفسي للفتاة
يقصد بالترويح النفسي : النشاط الذي يقوم به الإنسان بهدف حصول الاسترخاء والراحة، ودفع السآمة عن النفس، فالفتاة تحتاج إلى شيء من اللهو البريء المريح للنفس، والمجدد للنشاط، والباعث على الخير؛ فإن هذا مبدأ مقبول في التصور الإسلامي، حيث تجد الفتاة هذا النوع من الترويح في مجال السَّماع المعتدل، ففيه ساحة رحبة للترويح النفسي، والتجديد الروحي، بما يتضمنه من المعاني الحسنة، والصفات الحميدة, ضمن كلمات وعبارات موزونـــة، وصــــوت حسن، بعيداً عن آلات العزف، وفاحـــش القــــول ؛ فإن هذا الوصف لهذا النوع من الترويح لا خــــلاف في جـــوازه بين أهـــل العلـم قديماً،وحديثاً ؛ فقد أقرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنشاد الشعر الحسن،وسماع الحُداء المعتــــدل لعمــــوم الأمة،وزاد النســـاء – مع هذا – الدفَّ؛ لحاجتهن الفطرية إلى مزيد من اللهو، وميل طباعهن إلى شيء من التعمُّق والاستغراق،وفي هذا يقول ابن عبد السلام – رحمه الله-: " تمكين الشباب من اللعب، ومن النظر إليه : ضرب من الإحسان ؛ لأنهم يستروحون إلى ذلك . . . وكذلك التمكين من سماع الدف والغناء".
وقد كان بعض السلف في أسفارهم يتعاطون مثل هذا النوع من الترويح دون نكير،لما فيه من النشاط ودفع الملل ؛ ولهذا يترنم المتعب في عمله ليستجلب النشاط، ومن المعلوم أن سماع ما يُستحسن ويُستطاب من الأصوات الجميلة له تأثير إيجابي في زيادة النشاط، ودفع السَّآمة عن النفس، وفي هذا يقول ابن عبد السلام– رحمه الله - : " وعلى الجملة فالسماع بالحداء, ونشيد الأشعار بدعة لا بأس بسماع بعضها"،ويقول الإمام عياض– رحمه الله- : " وقد استجاز الصحابة وغيرهم غناء العرب المسـمى بالنصب، وهو إنشاد بصوت رقيق فيه تمطيط، وأجازوا الحـــداء، وفعلــوه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا كله إباحة مثل هذا " .
وقد أثبت هذا النوع من الغناء المشروع نجاحه في نقل مشاعر الفتاة المعاصرة وعواطفها من الذوق الجاهلي الهابط إلى مستوى الذوق الإسلامي الرفيع، في الوقت الذي وقف فيه الغناء الماجن، بمضامينه الساقطة، وآلاته المطربة وراء انحراف كثير من الشباب المعاصر وضياعهم، فكما أن للغناء تأثيره الإيجابي في الإصلاح والتوجيه إذا استغلَّ في الخير، وانضبط بالشرع : فإن له تأثيره السلبي العنيف إذا استغل في الشر، وخالف الشرع،وأبلغ ما يكون تأثيره إذا وُجِّه إلى الإناث؛ فإن عمله فيهن أكبر وأعظم، خاصة في هذا العصر الذي سيطر فيه أعداء الإسلام على غالب أجهزة البث الإعلامي بأنواعها، ولا سيما الإذاعية منها، حيث انهمكت في بثِّ المضامين المنحرفة عقدياً وخلقياً، ضمن المنظومات الغنائية، والألحان الموسيقية للصد عن سبيل الله ؛ وهو من نوع الغناء القبيح الذي كان يستخدمه المبطلون في الزمن الأول للصد عن الإسلام،وهو أيضاً الغناء المذموم الذي تعاطاه بعض المفتونين في العصور الإسلامية، حتى راج خبر الفنانين والفنانات، فأشغلوا الناس بما لا خير فيه،حتى قال فيهم الإمام ابن عبد السلام : " وأما سماع المطربات المحرمات فغلط من الجهلة المتشبعين، المتشبهين، المتجرئين على رب العالمين " ؛ولهذا نصَّ بعض الفقهاء على معاقبة المغنيين، وحبسهم حتى يتوبوا .
وفي العصر الحديث أفتى كثير من العلماء المعاصرين بحرمة الاستماع إلى مفاسد وسائل الإعلام، وما تبثُّه من الغناء الماجن، والعبث الخلقي، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شأن المغنيات من الجواري : " لا يحل بيع المغنيات، ولا شراؤهن، ولا تجارة فيهن، وثمنهن حرام "، وما يُذكر من المسامحة في ذكر الغزل,فإنما هو مما يُنقل من أشعار الجاهلية، وليس هو ما ينظمه أهل المجون والميوعة بغرض الفساد .
وفي الجانب الآخر تجد الفتاة المسلمة في مجال الإنشاد المعتدل بمضامينه الحسنة، ونغماته الخالية من العزف الموسيقي : ساحة واسعة للترويح النفسي، والترقي العاطفي، فتستغني بذلك عن الغناء المنحرف الصاخب .
ولعل مما يُعين الفتاة على الكفِّ عن الغناء الماجن أن تعرف أنه باب من أبواب المرض النفسي، فقد أثبت العديد من الدراسات المعاصرة : " أن الاكتئاب والهوس سائد بين الفنَّانين"،فلو كان مفيداً لنفع أصحابه، وأراح نفوسهم، والواقع يشهد بأنهم أرذل طبقات المجتمع، حتى في نظر الشباب المفتونين بهم ؛ ففي دراسة عربية لاستطلاع آراء الشباب حول المكانة الاجتماعية لأنواع المهن المختلفة, فقد جاءت مهنة : مطرب، وممثل، وموسيقار في آخر القائمة، ضمن عشر مهن هي أخس المهن وأقبحها في نظر الشباب،بل وحتى في السابق ؛ فإنه لم يكن يشتغل بهذا النوع من الفن الهابط إلا الإماء والنساء غير العربيات, ممن ضعف ضبطهن الخلقي، أما المرأة الحرة، فإنها كانت – في الغالب - تترفع عن هذه المنزلة الوضيعة،ولهذا يقول ابن القطان– رحمه الله - : " والغناء الذي يتغنى به الفساق، وهو الغناء المنهي عنه : مذموم عند الجميع "،فنهي عنه لكونه علامة على الفساق يترفع عنه الفضلاء، بل وحتى الذين قالوا بإباحة الغناء والموسيقى, فإنهم مع ذلك يمنعون منهما إذا كان فيهما ذريعة إلى الفساد والفتنة، كما هو واقع الفن في هذا العصر .
ومن هنا تدرك الفتاة أن الفن المعاصر في غالبه باب من الأذى النفسي, وليس هو باباً من الترويح عن النفس, إلا ما كان منه منضبطاً بضابط الشرع .