7- مشروعية الترويح البريء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، جاء بالحنيفية السمحة، لا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير، نهجه العدل، وسبيله الحق، تركنا على المحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك ضال، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ... أما بعد:
فإن المجتمعات المعاصرة في نهاية القرن العشرين، وبداية الألفية الثالثة الميلادية تتوجه بقوة نحو مزيد من أوقات الفراغ في مقابل أوقات العمل، وإلى مزيد من حياة الترفيه في مقابل حياة الجد، حتى إن أوقات العمل الجاد تتقلَّص شيئاً فشيئاً، لتحتل أوقات الفراغ الساحة الأوسع من حياة الإنسان المعاصر، يقول فليب فينكس: " لقد أصبحت التسلية في القرن العشرين عملاً تجارياً كبيراً، وأصبح لها تأثيرها القوي في تكوين الاتجاهات، وفي الشخصية".
ولا شك أن هذه الوجهة الاجتماعية المعاصرة نحو مزيد من أوقات الفراغ والتسلية والترفيه : تدفع إلى ضرورة الإفادة من أوقات الفراغ المتاحة في أنشطة إيجابية هادفة، تضمن حسن استهلاك الوقت من جهة، وتضمن من جهة أخرى سلامة النشاط المستخدم من الإضرار بالفرد أو المجتمع، ومن هنا برز مفهوم الترويح بصورته الشاملة ؛ ليكون مصطلح المجتمع المؤدَّب لملء أوقات الفراغ التي توافرت لأفرادالمجتمع - بصورة كبيرة - بأنشطة : عقلية، ونفسية، وبدنية . . . هادفة, توافق وجهة المجتمع, وتصب في مصلحته العامة والخاصة، فليس الترويح عطلة من الحياة، بل له نتائجه الإيجابية على الفرد في تكوين شخصيته, وسلامة نموها.
ولما كان الميل نحو الترويح وشيء من الترفيه والتسلية واللعب أمراً فطرياً في الإنسان، يحتاجه لراحة نفسه، وتجديد نشاطـــه : جاءت الشريعة الإســـلامية بما يوافق هذه الفطرة الإنسانيـــة ؛ فقد أقرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لعب الحبشة بحرابهـــــم في مسجده، وسمح بالتقْليـــس، وهو اللعب بالسيوف، وأذن للجواري بضرب الدف في الأعراس والأعياد، وقال : "فصل ما بين الحلال والحرام : الدف والصوت"، وقد كان له – عليه الصلاة والسلام – " حادٍ حسن الصوت " .
وقد أقرَّ سلف الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبدأ الترويح، فهذا أبو الدرداء – رضي الله عنه – يقول : " إني لأستجمُّ ببعض الباطل ليكون أنشط لي في الحق "، يعني أنه يجدد نشاطه ببعض المباح من اللهو، ويقول علي بن أبي طالب – رضي الله عنه –: "روِّحوا عن القلوب، وابتغوا لها طُرَفَ الحكمة ؛ فإنَّها تملُّ كما تملُّ الأبدان " ، ودخل مرة على بعض البنات وهنَّ يلعبن لعباً ما استحبه، فقال لهن: " . . . ألا أشتري لكم جوازاً بدرهم تلعبون به، وتتركون هذا ؟ قلنا : نعم، فاشترى لنا جوازاً وتركناها "، وقد سمع الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – شيئاً من الغناء الذي لا يشتمل على منكر يصدر عن بيت ولده، فلم ينكر عليه، رغم شدته في مثل هذه المسائل.
ولئن كان الجنسان في هذه المسائل الترويحية سواء، فإنَّ حاجة الإناث إليها أكبر، وميلهن إلى الاستمتاع بها أشد ؛ لذا جاءت الشريعة المباركة بمزيد تسامح في شأن الترويح مع النساء، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم- على جلالة قدره، وعظيم مقامه – يقول لعائشة – رضي الله عنها – حين دخل الحبشة المسجد يلعبون بحرابهم :"يا حميراء، تحبين أن تنظري إليهم ؟ فقلت: نعم "، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلميسترها حتى تنظر وتستمتع إلى أن تنصرف من عند نفسها، دون ملل منه،وفي هذا تقول – رضي الله عنها – منبِّهة المربين إلى حاجة الفتيات إلى مزيد من الترفيه والترويح : " ... فاقدُرُوا قدرَ الجارية الحديثة السن، تسمع اللهو "، وفي رواية : " الحريصة على اللهو "، فدل على حاجة النساء، ولا سيما الشابات والصغيرات منهن إلى مزيد من اللهووالترفيه الذي ترتاح إليه نفوسهن .
ولما كانت درجات الإشباع، وحدود الاكتفاء تختلف من شخص إلى آخر، فقد تندفع الفتاة بفطرتها نحو الإغراق في اللهو والترفيه، أو تتجاوز بحبِّـها للترويح حدود المباح إلى المكروه أو المحرم ؛ ولهذا ضبط النبيصلى الله عليه وسلمعبارات الغلو من بعض الجواري اللاتي غنين وضربن بالدف في حضرته الشريفة، " إذ قالت إحداهن : وفينا نبيٌّ يعلم ما في غدٍ، فقال : دعي هذه، وقولي بالذي كنت تقولين "، ولما بالغ أنجشة – رضي الله عنه – في حُدائه: خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء، لا يقع حداؤه في قلوبهن، فأمره بالكف عن ذلك، وقال له، منبِّهاً إياه : "ويحك يا أنجشة، رويداً سوقك بالقوارير "، وفي رواية : " رويداً يا أنجشة، لا تكْسِر القوارير".
ومن هنا فلا بدَّ لهذه الدوافع الفطرية من كوابح تضبط مسارها، وتحدِّد اتجاهها , فلا تخرج عن حدودها إلى الممنوع؛ إذ المقصود منها هو دفع السآمة والرتابة، وتجديد النشاط للقيام بالجاد من أمور الحياة، يقول الفيلسوف اليوناني أرسطو : " يلزم المرء أن يلهو ليشتغل بعد ذلك بجد، وله الحق كلُّ الحق، فإن اللهو نوع من الراحة، ولما أن المرء لا يستطيع أن يشتغل بلا انقطاع فالراحة حاجة، ولكن الراحة ليست في الحق غرض الحياة ؛ لأنها لا محل لها البتة إلا نظراً إلى العمل الذي يُراد إتمامه بعدها "، وقال أيضاً : " فالسعادة إذن لا تنحصر في اللهو، ومن السُّخف أن يكون اللهو هو غرض الحياة، ومن السُّخف أن يشتغل المرء طوال حياته، ويألم لا لشيء إلا ليلهو . . . إنه لأن يجدَّ المرء ويجتهد ليصل إلى أن يلهو، فذلك يظهر أنه سفهٌ وتفاهة " .
إن الأصل في إباحة المستلذات من الأصوات والأطعمة والأنكحة ونحوها, إنما هو تحقيق العبودية لله تعالى، فالأعمال والأنشطة المفروضة والمباحة، كلُّها يدفع بعضها بعضاً إلى تحقيق العبودية لله تعالى، فليس شيء من أنشطة الإنسان الموافقة للشرع تخرج عن العبودية، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " . . . وفي بُضْع أحدكم صدقة، قالوا : يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحـــــلال كان له أجر "، فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلم أن يقع في ذهنه أن عملاً ما- مما لا يتعارض مع الشرع- يمكن أن يخرج عن مفهوم العبودية لله تعالى، فالصوت الحسن، الذي يتلذذ به الإنسان عند سماعه، فإنه يدخل في مفهوم العبودية والأجر والثواب إذا استُغل في طاعة الله تعالى، يقول ابن تيمية رحمه الله : " والله قد خلق الصوت الحسن، وجعل النفوس تحبُّه وتلتذ به، فإذا استعنَّا بذلك في استماع ما أُمرنا باستماعه، وهو كتابه، وفي تحسين الصوت به . . . كنا قد استعملنا النعمة في الطاعة، وكان هذا حسناً مأموراً به . . . فهذا كان استماعهم، وفي هذا السماع كانوا يستعملون الصوت الحسن، ويجعلون التذاذهم بالصوت الحسن عوناً لهم على طاعة الله وعبادته باستماع كتابه، فيثابون على هذا الالتذاذ ؛ إذ اللذة المأمور بها المسلم يثاب عليها كما يثاب على أكله وشربه ونكاحه، وكما يُثاب على لذات قلبه بالعلم والإيمان، فإنها أعظم اللذات، وحلاوة ذلك أعظم الحلاوات "، ولا شك أن ما يقوم به الإنسان من أعمال يتعاطاها بجوارحه، فإن قدراً من الأثر الإيجابي أو السلبي لا بد أن يصل إلى قلبه، ثم ينعكس بعد ذلك مرة أخرى على جوارحه, فلا تتحرَّك إلا على وفق ما وقع في القلب، فاللذة التي يستمتع بها المسلم، ضمن الترويح المباح، يمكن أن تدخل ضمن مفهوم العبادة التي يثاب عليها، كما أن اللذة الممنوعة يأثم بها، وربما عاقبه الله عليها .
ولهذا فقد خالط الترويح المعاصر كثير من الممنوعات، التي تتعارض مع الوجهة التربوية الإسلامية، بسبب الغزو الفكري والثقافي، الذي تحمله وسائل الاتصال الحديثة، ولا سيما في ظل العولمة الثقافية والاقتصادية والسياسية، التي يشهدها العالم اليوم، إضافة إلى التوسع في خطوط المواصلات، التي سمحت بمزيد من الاحتكاك والحراك بين الشعوب، مما يؤثر بصورة سلبية على الشخصية الإسلامية، التي لم تعد تتحمل – في هذا العصر – حجم الاستلاب الثقافي الذي يمارس عليها ؛ ولهذا جاءت توصية الدورة الرابعة لمجمع الفقه الإسلامي المنعقدة بجدة عام 1408 هـ، مؤكِّدة على هذه المسألة، ومنبِّهة لخطورة الهجمة على الشخصية الإسلامية المعاصرة، حيث جاء فيها : " وضع الخطط العلمية للمحافظة على الأصالة الإسلامية، والتراث الإسلامي، والقضاء على كل محاولات التغريب والتشبه، واستلاب الشخصية الإسلامية، والوقوف أمام كل أشكال الغزو الفكري والثقافي، الذي يتعارض مع المبادىء الأخلاقية الإسلامية، وأن تُوجد رقابة إسلامية صارمة على الأنشطة السياحية والابتعاث إلى الخارج، حتى لا تتسبب في هدم مقومات الشخصية الإسلامية وأخلاقها " .
إن العمل – أيّاً كان – لا يُذم ولا يُمدح لكونه يحمل لذة أو مشقة، وإنما يُستحسن إذا كان لله أطوع، وللعبد أنفع، فرب لذيذ من العمل : يكون طاعة لله تعالى، ورب شاق منه يكون معصية له سبحانه وتعالى، فكل لهو تلهو به الإنسان لا بد أن ينطبع بطابع الشرع، وينضبط بضوابطه المحكمة .
ويمكن تلخيص الموقف الشرعي من الترويح في النقاط الآتية:
1 – يقر الإسلام مبدأ الترويح بضوابطه الشرعية، ضمن نظامه التربوي الشامل، الذي يوازن بين حاجات الإنسان المختلفة، ويراعي ميله إلى تجديد نشاطه في الحياة , بما يخرجه عن الرتابة والملل .
2 – يتوجه العالم المتحضر نحو مزيد من أنشطة الترويح، التي تشمل أنواعاً كثيرةً من الألعاب والهوايات والممارسات المختلفة، التي تحتاج إلى نظر شرعي، يضبط هذه الأنشطة ضمن حدِّ الإباحة المشروعة .
3 – يُعطي منهج الإسلام التربوي للفتيات ساحة أوسع للترويح ؛ وذلك لميل طباعهن نحو مزيد من الترفيه الموافق لفطرهن الأنثوية .
5 – يسمح نظام الإسلام التربوي للفتيات بالترويح النفسي، المتضمن للسماع المباح في غير إفراط أو تفريط، بما يجدد نشاطهن، ويصرف الملل عن نفوسهن.
6 – لا يستحب منهج الإسلام التربوي التوجه نحو ألعاب البطالة بقصد الترويح الذهني، كالنرد، والشطرنج، والورق، وألعاب الكمبيوتر، ونحوها ؛ لما فيها من الحظ، والتنافس البغيض، والتحاسد بين اللاعبين، إضافة إلى هدر الأوقات النفيسة في غير طائل.
7 – يشجع نظام الإسلام التربوي على تجديد النشاط الذهني بتنويع مادته، وتجديد أساليبه، بما يكفل دفع الرتابة الذهنية، ويبعث على النشاط العقلي .
8 – يقر الإسلام في منهجه التربوي حاجة الإنسان – ذكراً كان أو أنثى – إلى الحركة الجسمية المعتدلة، المتضمنة للسير في الأرض، والسياحة فيها، والرقص الترفيهي ؛ للبعد عن حال السكون والرتابة إلى حال الحركة والانبعاث، بما يحقق صحة جسمية، وترويحاً بدنياً، في غير ريبة، أو مذمة خلقية، ضمن حدِّ الاعتدال الذي يأمر به الإسلام .
9 – يرخِّص منهج الإسلام التربوي للفتيات – بصورة خاصة – اقتناء الدمى المجسَّمة، والتلهي بها، ضمن ضوابط وإرشادات معلومة، بهدف رعاية غريزة الأمومة عندهن، التي فطرن عليها، ولحاجتهن إلى التدريب على الرعاية الوالدية في سن مبكرة .
10 – لا يستحسن الإسلام في منهجه التربوي حبكة صناعة الدمى للفتيات الناشئات، بما يُخرج هذه الصنعة المتكلَّفة عن هدفها التربوي في الترويح وتنشيط غريزة الأمومة عند الفتيات، إلى المضاهاة بخلق الله تعالى، التي نهت عنها الشريعة الإسلامية .
وبناء على ما تقدم تجدر النصيحة بنا يأتي:
1 – أهمية إعادة النظر في أنشطة الترويح المعاصرة في ضوء تعاليم التربية الإسلامية، بهدف تأصيل منطلقاتها، وأسلمت ممارساتها ضمن ضوابط الشرع الحنيف .
2 – التنبُّه إلى حاجة الفتيات الفطرية إلى مزيد من الترويح، وساحة أوسع من الترفيه، في غير إفراط يخرج بهن عن حدِّ الاعتدال، الذي تأمر به شريعة الإسلام السمحة .
3 – ضرورة إشاعة ضوابط الترويح النفسي للفتيات في المجتمع، بما يضمن ممارستهن ضمن الحدِّ المشروع الذي سمحت به الشريعة الإسلامية، وبما لا يخرج بهن عن حدِّ الاعتدال إلى الإفراط المذموم.
4 – السعي الجاد في ابتكار الأساليب والوسائل المشروعة، التي تجدد نشاط الفتيات العقلي، وتروِّح عن أذهانهن، ضمن ما تسمح به الشريعة، ويحقق لهن هدف الترويح الذهني .
5 – محاولة تعديل مفهوم الترويح الذهني من كونه مجرد ألعاب بطالة تُهدر فيها أوقات الفتيات، إلى تنويع النشاط العقلي بتجديد أسلوبه وطريقته، وتنويع مضمونه ومادته، بما يحقق فائدة علمية، ومعرفة ثقافية جديدة , يتحقق من خلالها هدف الترويح الذهني للفتيات .
6 – العمل على ضبط حركة الفتيات الجسمية وسياحتهن في الأرض, ضمن مفهوم الترويح البدني الذي تقره الشريعة، وبما لا يتجاوز حدَّ الاعتدال المشروع، فيخرج بهن إلى الإفراط المخل بسلوك المرأة المسلمة، وربما خرج بهن إلى حدِّ المسِّ المقلق الذي يصعب معه الاستقرار والسكون، ويبعث - بصورة دائمة - على الحركة والتنقل .
7 – ضبط معايير إنتاج دمى الفتيات المجسَّمة ضمن مفهوم الترويح الغريزي، بما يحقق هدف إباحتها لهن، ضمن حدِّ الرخصة الشرعية وضوابطها، وبما لا يتجاوز الغاية من صناعتها إلى المضاهاة بخلق الله تعالى، بحيث تسمح الدمية الساذجة للفتاة – من خلال بساطة صناعتها – بشيء من الخيال الإيجابي في إكمال نقصها، بما تضفيه عليها من عناصر خيالية تكمل بها – ذهنيًّا – صورتها الطبيعية .