19- المسئولية الاجتماعية في تربية الطفل وتهذيبه
الحمد لله الذي خلق فسوى ، والذي قدَّر فهدى ، الذي علَّم بالقلم ، علَّم الإنسان ما لم يعلم ، أحمده وأستعينه وأستغفره ، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، خير من علَّم وأدَّب ، ووجَّه ونبَّه ، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد ... فإن الكائن البشري يمر بسلسلة من مراحل النمو الإنساني المترابطة والمتداخلة " بدءاً من البويضة المخصبة إلى الجنين ، إلى الوليد ، إلى الرضيع ، إلى الطفل ، إلى المراهق ، إلى الشـاب ، إلى الرجـل ، إلى الشـيخ الهرم " ، كما وصف الله تعالى مجمل هذه المراحل بقوله : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا...﴾ ، فهي مراحل من النمو البشري يمر بها الإنسان ، يتدرج فـيها من ضعف إلى قوة ثم إلى ضعف ، عبر سنوات عـمره المقدَّرة ، يشمل ذلك كل جوانب شخصيته: الجسمية ، والعقلية ، والروحـية ، والاجتمـاعية ، والأخلاقية ، واللغوية ، والانفعالية ، والجنسية ، من الإخصاب إلى الممات .
وتأتي مرحلة الطفولة من عمر الإنسان - بما تحمله من المخزون الفطري الرباني - أساساً لما بعدها من مراحل النمو البشري ، وعليها تتحدَّد نوعية الشخصية التي سوف يكون عليها الإنسان في المستقبل ، ولهذا جاءت "... وحـدة الطفـولة البشـرية أطول من طفولة أي كائن حي آخر . . . " ، وأضعفها أيضاً ، وأكثرها اعتماداً على رعاية الآخرين ، وذلك لتأخذ التربية - بكل أبعادها وجوانبها - مداها في صناعة الإنسان ، وإعداده وفق معايير المجتمع ومبادئه وتصوراته ، فالطفل في مفهوم الإسلام كائن بشري مكرم فريد، يُعدُّ لمسئولية التكليف ، ضمن غاية العبودية التي وُجد من أجلها، كما قال الله تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) ، فالأطفال الصغـار - بهذا المعنى الإسلامي - ليسـوا مـلكاً للأسـر التي أنجبتهم ، ولا ملكاً للمؤسسات التعليمية التي تحتضنهم ، ولا ملكاً للمجتمعات التي نشأوا فيها ، بحيث يُترك لهذه المؤسسات حق التصرف المطلق في تكييف مناهج التربية وأهدافها ، وفق نظريات وضعية ، أو مذاهب فكرية، أو أهواء شخصية ، وإنما هم عناصر بشرية مدَّخرة ، تتهيأ - من خلال التربية الإسلامية - لزمن التكليف الشرعي ، وما يلحقهم بذلك من مسئوليات ومهام تكليفية.
ولهذا فقد حفل التراث الإسلامي بثروة تشريعية عظيمة ، مستمدة من فقه الكتاب والسنة لتربية الأطفال ، وإعدادهم لسن التكليف والإنتاج والعمل ، بما يكفل تعريفهم أصول الدين ، وتهذيبهم بآداب السلوك ، وتعويدهم نهج العبادة ، حسب مراحل نموهم ، بحيث ينشأ الطفل نشأة سوية ، تشمل كل جوانب شخصيته ، ضمن منهج تربوي إسلامي ، يراعي طبيعته الفطرية ، وحاجاته الإنسانية .
ولما كان الأطفال بفطرتهم الإنسانية متنوِّعين في طبائعهم ، متباينين في أخلاقهم ، ليسوا على طبع واحد في مسالكهم الاجتماعية ، ولا هم على طريقة واحدة في استجاباتهم السلوكية ، ولا هم أيضاً على مستوى واحد في ردود أفعالهم تجاه المواقف التعليمية ؛ فإن منهج التربية مدعوٌ ليشمل كل هذه الأطياف السلوكية ، فيتعامل معها بما يناسبها ، وفق معطيات علمية صحيحة ، ومبادئ تربوية حكيمة ، ولهذا تواجه المؤسسات التعليمية كل أنماط السلوك الصبياني بحزمة من التشريعات التربوية ، والأنظمة الإدارية ، التي تعمل في مجموعها على الحدِّ من السلوك غير المرغوب فيه ، في مقابل دعم السلوك المغاير .
إلا أن الواقع التعليمي المعاصر - على المستوى المحلي والعالمي - يشهد تراخياً تربوياً في المؤسسات التعليمية ، وفي تشريعاتها التربوية ، بسبب ضغوط سياسية ، وفكرية ، واجتماعية منذ عقود ، أدَّت - في مجموعها - إلى ظهور سلوكيات طلابية متباينة ، بعضها في غاية الشذوذ والشناعة ، مما يُصنَّف ضمن الجرائم الجنائية ، التي تتطلب - في بعض الحالات - التدخل الأمني ، والمحـاكمة القضائية ، حتى تحوَّلت بعض مؤسسـات التعـليم - في بعض أحـوالها - إلى ساحات للصراع والعنف والاقتتال ، بين الطلاب وذويهم من جهة ، والمعلمين والإدارة من جهة أخرى .
ولا يشك الباحثون أن متغيرات سلبية جديدة : اجتماعية ، واقتصادية ،
وإعلامية ، طرأت على المجتمعات الحديثة : فأسهمت بصور مباشرة وغير مباشرة في تعقيد العملية التعليمية ، واضطراب العلاقة التربوية بين المعلم والتلميذ ؛ إذ يستحيل على مؤسسات التعليم الرسمية أن تعمل وحدها في بناء الإنسان ، منفردة بالمسئولية التربوية دون باقي مؤسسات وقطاعات المجتمع ، فضلاً عن أن تناهض مؤسسات المجتمع وقطاعاته جهود مؤسسات التعليم ، وتعارض غاياتها التربوية ؛ بحيث تعمل في غير اتجاهها ، وتعاكس أهدافها ، وحينها تتعسَّر العملية التعليمية ؛ فتُفرَّغ من محتواها التربوي ، وتتحول إلى هياكل شكلية جوفاء ، لا تبني كياناً إنسانياً صحيحاً ، يقول محمد قطب : " ... إن تربية طفل واحد على الإسلام كتربية ألف طفل ، كتربية جميع الأطفال ، تحتاج إلى البيت المسلم ، والشارع المسلم ، والمدرسة المسلمة ، والمجتمع المسلم " .
ومع كل ذلك تبقى المسئولية التربوية منوطة بالمؤسسات التعليمية ، ضمن نطاق حدودها وإمكاناتها المتاحة ، بل هي مدعوة في هذا العصر أكثر من ذي قبل للاضطلاع بمسئولياتها التربوية ، ومضاعفة جهودها التعليمية ، للنهوض بالأمة الإسلامية في عصر تخلَّفت فيه عن الإسهام الجاد في بناء الحضارة الحديثة ، فكل ما من شأنه ازدهار العملية التعليمية بدعم إمكاناتها ، وتذليل معوِّقاتها : يأتي أولوية تربوية ، لا بد أن تحظى بتأييد سياسي واجتماعي وثقافي ، يمكِّن مؤسسات التعليم من القيام بواجباتها التربوية المنوطة بها ، سواء التعليمية منها أو التأديبية، بحيث تُمكَّن من كل ذلك ضمن ضوابط وأنظمة وتشريعات محكمة ، تضمن الحقوق ، وتحكم الأداء ، في إطار العدل والتوسط ، المجانب للظلم والتطرف ؛ فقد ثبت أن القسوة في التربية تثير الحقد وتُميت الهمـة والمبـادرة ، إلا أنه لا بد من التمييز بين القسوة العمياء ، وبين الحزم القائم على احترام الحدود وضبط السلوك ؛ فإن الانفلات التربوي ، والتردد بين التسامح والحزم : يحول دون نمو منظومة القيم الخلقية اللازمة والضرورية لتوجيه سلوك التلميذ ، وتدريبـه على مهـارة التميـيز بين الخطـأ والصواب ؛ فإن الطفل في مرحلتي الطفولة المتوسطة والمتأخرة - بما تحملانه من خصائص وحاجات - يتأثر بما يُلقى إليه من مدح أو ذم ، فيكون ذلك باعثاً قوياً له في إثارة دافعه ، ومن ثمَّ توجيهه نحو الخير ، وتحذيره من الشر .
وكذلك الشأن في جملة أساليب الثواب والعقاب ، باعتبارها محفِّزات وكوابح ، تحرك الطفل أو تكفُّه ، تعزَّز سلوكه أو تثبِّطه ؛ إذ من الصعوبة بمكان - من الوجهة التربوية الإسلامية - تقرير قاعدة مسبقة مطردة بتحريم العقـوبة مطلـقاً ، أو الأخـذ بهـا مطلقـاً ، سـواء كانت عقوبة حسـية أو معنوية ، وإنما المرجِّح في ذلك هو المصلحة التربوية ، المبنية على النظر الصحيح ، في ضوء التشريع الإسلامي .
وأما ما يتنادى به الغربيون من منع العقاب البدني مطلقاً ، واعتماد أسلوب الثواب فقط ، من خلال طرح آراء فقهائهم التربويين ؛ فهو إلى المثالية أقرب منه إلى الحقيقة الواقعية ، وهو إلى النظرية أقرب منه إلى الممارسة الفعلية ، وهذا واضح بيِّن في مجتمعاتهم التي عجَّت بالعنف المفرط تجاه الطفولة .
ولا يُنكر المهتمون بالشأن التربوي الفائدة الإيجابية من استخدام بعض
الأساليب التربوية الحديثة كاللعب ونحوه ، في التخفيف من حدَّة المشكلات السلوكية عند الأطفال ، مما يُغني عن كثير من العقاب ، إلا أن ذلك غيرُ مطَّردٍ في كل الأحوال ، ولا عام في كل الحالات ؛ إذ لكل قاعدة شواذ لا بد من مراعاتها ، والمنهج التربوي الحق ، هو الذي يستوعب بشمول أنماطه ، وتنوُّع أساليبه جميع المواقف والأحـوال ، ويُلبي علاج مختلف الطبائع والمسالك ، ضمن برامجه التعليمية ، وتشريعاته التنظيمية .