18- التلميذ والتكاليف الشرعية
التكاليف في الشريعة الإسلامية منوطة بالبالغين العقلاء ، دون غيرهم من الأطفال أو المجانين ، فالخطاب الشرعي الملزم بالعبادات ، والمعاملات ، والحدود لا بد له من الأهلية التي لا تثبت إلا بالبلوغ والعقل ؛ فالطفل يفتقر إلى قدرتين ليتأهل للمسئولية ؛ قدرة تؤهله لفهم واستيعاب الخطاب الشرعي ، وهذه لا بد لها من العقل ،وقدرة أخرى تؤهله لتنفيذ مضمون الخطاب ، وهذه لا بد لها من القدرة على الاختيار ، فلا بد من العقل المدرك والإرادة القادرة للمسئولية الشرعية والجنائية ، وهاتان القدرتان لا تتوافران في الطفل ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رُفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يشب ، وعن المعـتوه حتى يعقل " ، وفي رواية : " ... عن الصبي حتى يحتلم ... " ، فبلوغ الحــلم هو بدايـة التكـليف الشــرعي ، ما لم يكن البـالغ مغلـوباً على عقله ، فقد " أجمع أهل العلم على أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل " ، فلا خلاف بينهم أنه لا تكليف على الصبي ، ولا قصاص عليه ، ولا إثم يلحقه بفعل شيء أو بتركه ، فالحدود الشرعية لا تُقام إلا على بالغ عاقل ، عالم بالتحريم ؛ " لأنه إذا سقط التكليف عن غير العاقل البالغ في العبادات ، وسقط الإثم عنه في المعـاصي ؛ فالحد المبني على الدرء بالشبهات أولى " ، " ولكن على وليه أداء الزكاة ، ونفقة القريب من مال الصغير ، وكذا غرامة إتلافه ونحوها " ، فالساقط عن الطفل في الجنايات هي العقوبات البدنية المعروفة بالحدود الشرعية ، أما العقوبات المالية فلا تسقط عنه بسبب الطفولة ، وغاية الأمر أنه إذا جنى على نفسٍ ، أو مالٍ : فإنه يؤاخذ مالياً لا بدنياً ، كأن يقتل أحداً ، أو يتلف مال غيره ، فإنه يضمن دية القتيل ، وما أتلفه من المال ، ولكنه لا يقتصُّ منه ، وهذا معنى قول الفقهاء : " عمد الطفل أو المجنون خطأ " ، قال إبراهيم النخعي : " عمد الصبي وخطؤه سواء " ، ومع ذلك فإنه يُعزَّر تأديباً له وليس قصاصاً حديًّا ، بهدف زجره عن السلوك القبيح ، ما دام أنه مميِّز ، ينتفع بالتأديب ، وإلا فلا يصح تعزير من لا يفهم .
ومما يُنقل من السيرة النبوية في ذلك أن صبياً به علَّة ، أتي به النبي صلى الله عليه وسلم ليرقيه ، " فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يرقي الصبي ويتفل عليه ، وجعل الصبي يتفل على النبي صلى الله عليه وسلم كما يتفل النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل بعض أهل البيت ينهى الصبي ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم" ، فرغم أن هذا من أقبح السلوك ، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذه لصغر السن .
وقد ناقش فقهاء الإسلام مشاركة الطفل - ذكراً كان أو أنثى - في الجرائم المنصوص عليها بحدود شرعية ، كالزنا ، وشرب الخمر ، والقتل ، والقذف ، والردة ، فلم يحمِّلوا الطفل شيئاً من تبعات المسئولية الجنائية ، إلا ما كان مالياً ، مع التأديب الذي يزجره عن مثل ذلك إن كان مميِّزاً ، وحتى جريمة القتل التي يقترفها الطفل ، فإنه لا حدَّ عليه ، في حين لو قتل البالغ صبياً لم يبلغ الحلم قيد به ، بل حتى الجنين في بطن أمه : فيه الدية على من أسقطه ، فالطفل في الإسلام كائن محترم ، لا يؤاخذ بالعقوبة الجنائية ، ولا يلحقه الإثم ، ما دام لم يبلغ الحلم بسبب عدم الأهلية ، وإن مات قبل البلوغ كان في الجنة ، وفي الحديث : " ذراري المسلمين في الجنة ، يكفلهم إبراهيم عليه السلام" ، وبذلك تكون الشريعة الإسلامية أول شريعة ميَّزت بين الصغار والكبار من حيث المسئولية الجنائية ، ضمن قواعد وأحكام لم تتغيَّر ولم تتطور ، وما تزال صالحة حتى الآن ، وكلَّما نضج القانون الوضعي الحديث : قرب من التشريع الإسلامي ، وتوافق معه .
ولا يفهم مما تقدم أن هذه الموبقات حلال للصبي ما دام صغيراً ، بل هي محرمة عليه ، كما هي محرمة على البالغين ، إلا أنه لا حدَّ عليـه إذا وقع فيها ، ولا يلحقه الإثم لعدم الأهلية ، يقول السيوطي عن الصبي : " إذا وطئ أجنبية فهو زنا ، إلا أنه لا حدَّ فيه لعدم التكليف " .
والعجيب أنه رغم وضوح الوجهة الإسلامية في التعامل مع الطفولة ، وتطبيق مقتضياتها القضائية عبر قرون متطاولة من الزمان في الشرق الإسلامي : بقيت مجتمعات أوروبا - في الجانب الآخر- قابعة منذ قرونها الوسطى ، حتى بدايات القرن العشرين الميلادي في تردد طويل حول أحكام الطفل القضائية ، تمارس بحقه من العقوبات الجنائية ما تمارسه بحق الكبار البالغين ، مقتدية في ذلك بأمم بدائية ، فقد سجَّل التاريخ جمعاً من المخازي القضائية بحق الجناة ، تطال الشخص في ذاته فتستأصله بأقسى أنواع العقوبات ، ونظراً لغلبة المفاهيم الخرافية على المشهد الأوروبي فقد طال العقاب القاسي الأطفال دون سن التمييز وما بعده ، حتى الحيوانات والجمادات لم تنج من العقاب ، فقد بلغ الحال أن تصدر الأحكام القضائية بتعذيب جثث المذنبين بعد إعدامهم ، فقد بلغ التشوُّه العقدي والفكري ذروته تجاه الجناة والمذنبين في أوروبا خلال القرون الوسطى ، حتى رُبطت أخطاؤهم بالخبث والفساد والزندقة ، وبالتحدي لإرادة الله تعالى .
وعلى الرغم من التطور الأوروبي الحديث الذي طرأ على الأنظمة القضائية ، بناء على تجدد المفاهيم والتصورات حول التعامل مع الجناة ، لا سيما من الأطفال الصغار والأحداث المراهقين ، والنظر إلى جانب العوامل التي أحاطت بالجاني ؛ فإن إنجلترا وأمريكا كانتا من أواخر دول الغرب تسامحاً مع الأطفال الجانحين ، متأثرتين في ذلك بأفكار كنسية مغلوطة ؛ فقد خطب أحد رجال الدين الإنجليز في القرن السـابع عشر يقول : " من المؤكد أن في جميع الأطفال عناداً وغلاظة في العقل ، نابعة من غرور طبيعي ، وأنها بحاجة - قبل كلِّ شيء- إلى التحطيم والإذلال" ، وقد نصَّ قانون ولاية جيرسي الشرقية عام 1688م ، قبل الاستقلال الأمريكي ، أن الإعدام عقوبة الطفل العاقِّ لوالديه ، وبالفعل فقد حُكم بالإعدام على أطفال في الثانية عشرة من أعمارهم في كلٍّ من إنجلترا وأمريكا ، وفي عام 1853م كان في سجون إنجلترا ما يزيد على ألف حدث وطفل ، ما بين ( 5- 17 ) سنة ، وقد نالت السلطة الرسمية بالعقاب حتى الحيوانات العجماوات في القرون من الرابع عشر حتى السـادس عشر ، مندفعين باعتقاد مفاده أن الشيطان قد تلبَّس بهؤلاء المذنبين ، وفي تشديد العقاب عليهم ردع للشيطان !!
وقد كانت المسئولية الجنائية في إنجلترا تنحطُّ على الطفل منذ سن السابعة عام 1908م ، ثم رُفعت إلى الثامنة عام 1933م ، ثم إلى العاشرة عام 1963م ، وما تحسَّنت أوضاع التعامل مع هؤلاء الجناة إلا بالثورة الفرنسية ، وما بثـَّـته في أوروبا من الأفكار الجديدة حول كرامة الإنسـان ، معتمدة في ذلك على آراء فلاسفة عصر التنوير ، وما أعقب ذلك من الإعلانات العالمية المتلاحقة لحقوق الإنسان ، والوثائق المتضمنة مبادئ حقوق الطفل .
والعجيب أن يتسنَّم الغرب - بكل ما يحمله من المثالب التاريخية- قيادة العالم المتحضِّر في الدفاع عن حقوق الإنسان ، وتبنِّي وثائق حقوق الطفل ، وتولي إرادات متابعة تنفيذها ، ويبقى المسلمـون المعاصـرون أتباعاً في ذلك ، يتعلَّمون المبادئ والحقوق من القاصرين إنسانياً ، ومن الملوثين تاريخياً ، ويكفي المسلمين فخراً أنه منذ البعثة حتى الآن : لم يثبت قطُّ أنه حكم قاضٍ مسلم على طفل لم يبلغ الحلم بحدٍّ شرعي ، مهما كان جرمه ، وقبح صنيعه ، وليس ذلك تهاوناً بالجرائم ، ولكن رحمة بالطفولة ، حتى يهود بني قريظة ، الذين جمعوا بين الكفر والخيانة العظمى ، لم يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا البالغ منهم فقط ، فإذا كان هذا السلوك سائغاً مع الكفار ، فكيف لا يكون سائغاً مع أبناء المسلمين ، ممن لم يبلغ الحلم ؟