55- الجنة والنار
الحمد لله على نعمائه ، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه ، والصلاة والسلام على خير المرسلين ، وأشرف النبيين ، وإمام الغرِّ المحجَّلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين ، أما بعد .. فإن من المستقرِّ عند جميع المسلمين أن الناس يوم القيامة ينقسمون إلى قسمين لا ثالث لهما :( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) (42/7) ، فقد قضى الله تعالى على الثقلين من الإنس والجنِّ ، أنهم يصيرون في نهاية مطافهم إلى إحدى دارين : الجنة أو النار ، فمن قضى الله له بالسعادة دخل الجنة ، ومن قضى الله عليه بالشقاء دخل النار ، فالكلُّ لا بدَّ صائر حتماً إلى إحدى هاتين الدارين ، فأهل الجنة هم أهل التوحيد الخالص ، يدخلونها برحمة الله تعالى وفضله وحكمته ، فينعمون فيها بصنوف النعم الربَّانية ، وعظيم العطايا الإلهيَّة ، فيبقون فيها خالدين أبداً ، لا يموتون ولا يتحوَّلون ولا يُزحْزحون .
وأما أهل النار فهم أهل الشرك والكفر ، فيدخلونها بعدل الله تعالى وحكمته ، فيبقون فيها أذلَّة صاغرين ، يقضون أحقاباً متتابعة من الأزمان ، في خلد دائم لا منتهى له ، يعذبون فيها بصنوف العذاب الشديد ، لا يموتون فيرتاحون ، ولا يحْيون فيسعدون ، وإنما هو البقاء الدائم ، والعذاب الأليم .
وقد أنذر الله تعالى الكافرين النار ، وبشر المؤمنين الجنة ، فقد حفل الوحي الرباني المبارك بالبشارة والنذارة ، فمازال الرسل والأنبياء يبشرون وينذرون ، حتى ختمهم الله تعالى ببعثة أكرمهم وأعظمهم عنده ، فكانت رسالته الخاتمة أبلغ في البشارة ، وأخطر في النذارة ، قد بلغت المنتهى في ذلك ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ((10/57) .
وأما صاحب الرسالة - عليه الصلاة والسلام – فقد أدَّى الأمانة غاية الأداء ، وبلَّغ الرسالة أتم البلاغ ، فبشر وأنذر ، ورغَّب وأرْهب ، وأشهد الأمة على ذلك في اجتماعات عديدة ، وقال فيما قال : "...أنا النذير العريان..."(البخاري) ، وهذا التعبير منه – عليه الصلاة والسلام - أشدُّ في التنبيه والتحذير ، وأبلغ في الإثارة والتحفيز ، فلا ينزع الرجل ثوبه للناظرين من قومه إلا لداهية عظيمة ، يخاف أن تنزل بهم حال غفلتهم .
وكان خبر الجنة والنار حاضراً في حياته – عليه الصلاة والسلام – يذكِّر بهما أصحابه ، فيتخوَّلهم بالموعظة من وقت إلى آخر ، فقد قال لهم مرَّة : "لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرضهذا الحائط وأنا أصلي ، فلم أر كاليومَ في الخير والشر"(البخاري) ، وربما قال مذكِّراً لهم : " والذي نفسي بيده ، لو رأيتم ما رأيت ، لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، قالوا : وما رأيت يا رسول الله ؟ قال : رأيت الجنة والنار "(مسلم) ، وقال مرَّة – وقد سقط رداؤه عن عاتقه - : " أنذرتكم النار ، أنذرتكم النار ، أنذرتكم النار "(مشكاة المصابيح) !! ومن أبلغ ما ورد عنه - عليه الصلاة والسلام – في التذكير بهما قوله : "لا تنْسَوا العظِيمتَين ، قلنا : وما العظِيمتان ؟ قال : الجنة وَالنَّار"(المطالب العالية) .
وهكذا يربط رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه والأمة من ورائهم بهذا المصير المحتوم ، والنهاية الأكيدة ، فلا يغيب خبر الجنة والنار عن ذهن المكلَّف بشغل يشغله ، ولا بعمل يعمله ، فهما شغل المكلَّفين الأول ، وقضيَّتهم الأهم ، ومسئوليَّتهم الأكبر ، فمعتقداتهم وأعمالهم ومقاصدهم : هي زادهم إلى الآخرة ووسيلتهم إليها ؛ فما من عقيدة ، أو عمل ، أو إرادة ، إلا تسوق المكلَّف وتقرِّبه إلى إحدى الداريْن ، فمسارع في نجاته ، ومتعجِّل في عطبه .
إن السعيد من جاءته موعظة ربه فانتبه وانْزجر ، والشقي من تمادى فكفر واندحر ، وثالث يتردَّد مسوِّفاً ، يظن أن يُمدَّ له في الأجل ، فانظر أيها الإنسان من أي الثلاثة أنت ؟ واعلم أنما هما قبضتان لا ثالث لهما ، إحداهما في الجنة ، والأخرى في النار ، ففي أي القبضتين أنت ؟ والله تعالى المستعان ، وعليه - سبحانه - التكْلان ، ولا حول ولا قوة إلا به.