76- الطبيعة الفرديَّة في نظام تعليم الفتاة
المقصود بنظام تعليم فردي، كونه نظامًا يتعامل مع كل فتاة على حدة، يراعي طبيعة ظروفها الاجتماعية والأسرية، وحدود إمكاناتها وقدراتها العلمية والعمليـة، فلا يلزمهــا بنظام التفويــج الجماعـــي، ولا يقيِّدها بمجموعات طلابية معينة، ولا بأزمنة محددة، وإنما يُتيح لها فرصة الاجتهاد الفردي الحر، ضمن حدود ظروفها وإمكاناتها المتاحة، فلا يقعــن تحت طائلــة الأنظمــة والقوانين التعليمية القائمــة، التي لا تراعي – في العادة – حاجاتهن الاجتماعية، وطبائعهن الفطرية .
ومن خلال الفقرات التالية يمكن بيان هذا المعلم بصورة أوضح :
أ – نظام تعليم يراعي طبيعة قدرات الفتاة الذاتية :
إن نظام تعليم الفتاة المسلمة لا يتقيد في نمطه التعليمي بنظام جماعي، أو بمعرفة معيَّنة، أو بسن محدودة، بل يتعامل مع كل فتاة حسب إمكاناتها، وقدراتها الذاتية : العقلية، والنفسية والاجتماعية . وميولها العلمية الخاصة، مراعياً في ذلك الفروق الفردية بين المتعلمات ؛ فقد أثبتت التجارب جدوى هذا النوع من أساليب التعليم على التحصيل العلمي عموماً، حتى في العلوم التطبيقية، كما أكَّدت دراسات كثيرة أن الطلاب يحققون نجاحاً أكاديمياً كبيراً، ويشعرون بالرضا، ويتمتعون بدرجة كبيرة من الإشباع من العملية التعليمية، إن هم تعلموا بطريقة تراعي مستوياتهم العلمية المختلفة، كما أكَّدت بعض الدراسات الحديثة المستشرفة للتعليم في المستقبل على أن التعليم عملية فرديــة، وأن للمتعلم خصوصية وذاتية مستقلة، وأن التربيـة الإبداعية لا تحصل إلا بمراعاة ذلك في المتعلمين ، وفي الجانب الآخر تأكد أن التعليم الجماعي الذي لا يراعي الفروق الفردية بين المتعلمين، ويصبُّهم جميعاً في بوتقة علمية واحدة: يضر بالعملية التربوية من جهة إهداره لحقوق النخبة المتفوقة، ومن جهة أخرى تضييعه لحاجات الفئة المتعثرة ؛ حين وُضع ليتناسب مستواه عادة مع الفئات المتوسطة من الطلاب .
إن الطالبة المتخلِّفة دراسياً لا تستطيع أن تجاري الجماعة، كما أن الطالبة المتفوقة المبدعة لا تستطيع هي الأخرى أن تحافظ على تفوقها مع مسايرتها للجماعة؛ لأن قدراتها الفردية في الوسط الجماعي – مهما كانت جيدة – تتبدد ولا تظهر، فالشخص مهما كان ذكياً فإنه يفقد القدرة على استخدام إمكاناته العقلية بصورة صحيحة متكامــلة في مواقفــه الجماعيــة ؛ لأن ذكاء الجماعــة في العادة أضعف من ذكاء الفــرد ؛ لهذا يغلب على الأذكياء العمــل الفــردي، كما دلَّت على ذلك البحوث، حتى إن بعض التربويين، من فرط شعورهم بهذه الأزمة التربوية رأوا تقسيم المتعلمين في مجموعات منفصلة، وتوجيههم حسب نبوغهم ودرجة
ذكائهم .
ولما كان المتعلمون – ذكوراً كانوا أو إناثاً، أطفالاً أو شبَّاناً – يتباينون
في مواهبــهم، واستـعداداتهم، وقابليــاتهم، وسائر صفاتهم الشخصية، فإنه لا يمكن لنظام تعليمي – أياً كان – أن يُوجد نهجاً تربوياً موحَّداً يُلائم مختلف هذه القدرات والاستعدادات الطلابية المتباينة، ويراعي اختلاف طبائعهم وخلفياتهم الشخصية، ومن هنا تظهر أهمية أسلوب تفريد نظام التعليم ؛ بحيث ينطلق المتعلم بصورة فردية، حسب طاقته، وقدراته المتاحة، فلا يؤثر سلباً على غيره، ولا يتأثر بسلبيات غيره، مندفعاً بذاتـه نحـو المعرفة ، وبرغبته الصادقـة في العلـم ، فيطوِّر من نفسه بنفسه، وينمـيها بالوسـائل العلمية المتاحة ، وعبر مختلـف المؤسسات التعليمية النظاميــة وغير النظاميــة؛ فإن المسلم مطالب في أحوالــه كلها بأن يتعلــم ، وأن ينمِّي نفسه، وقد أثبتت التجارب أن التعليم يأخذ محله إذا كان الدافع من ذوق المتعلم وحاجته، وهذا ما أكَّدت عليه بعض الندوات التعليمية المعاصرة .
وقد أدرك رجال التربية من سلف الأمة هذه الطبيعة الإنسانية، فعملوا منذ البداية على تفريد التعليم، من جهة السن، ومن جهة المادة العلمية، وأوقات التعلم، وزمن الالتحاق بالمؤسسة التعليمية، ومصدر منح الإجازة العلمية، فتعاملوا مع كل طالب على حدة، متجنِّبين أسلوب التفويج الجماعي للطلاب، في حين لم تدرك المؤسسات التعليمية الغربية هذا الأسلوب التربوي الفريد إلا بعد الحرب العالمية الثانية على يد " سكنر "، فأخذوا بقوة يراعون مسألة السِّن، وميول الطالب، ويشجعون المبادرات العلمية الفردية، إلى أن تحقق لهم التفوق العلمي الذي يعيشونه اليوم، حتى ظنَّ بعضهم، أن تفريد التعليم نظام تقدميٌّ حديث، لم تكن تعرفه أنظمة التعليم القديمة، متناسين أن أسلوب التفويج الجماعي أسلوب فرضته أنظمة التعليم الحديثـــة، تحت ضغــط الأنظمة السياسية، والتوسع الكمي في أعداد
المتعلمين .
ولعل أفضل أسلوب لتطبيقات هذا النظام التربوي استخدام أسلوب:
"التعليم المصحفي "، أو " التعليم المبرمج " : الذي يقوم على أسلوب التَّعلُّم الذاتي من خلال برنامج مُعد من قبل مختصين، يعرض على الطالب المادة العلمية بصورة منتظمة ومتدرجة، تُقدَّمُ عن طريق آلة تعليمية، أو منهج مكتـوب، تُهيئ للطالب مناخاً للتَّعلُّم.
هذا الأسلوب التعليمي مع كونه ثابت الجدوى، وناجحاً في تحقيق الأهداف التعليمية: فإنه مع هذا يُحيي في الفتاة – والمتعلمين عمومًا- الاعتماد على النفس، والمسؤولية الفردية تجاه المعرفة ، إلى جانب أنه أقل تكلفة من التعليم النظامي التقليدي، ويتَّسع لأكبر عدد ممكن من التلاميذ، خاصة في الوقت الذي ضعفت فيه إمكانات الأمة التعليمية عن استيعاب جميع المتقدِّمين إلى التعليم من الشباب المسلم في المرحلتين الثانوية والجامعية، وما يمكن أن يصدر عن هؤلاء الشباب- حين يُهملون-
من السلبيات السلوكية الخطيرة .
إن من الضروري إعادة النظر في أنظمة تعليم الفتاة الحالية ؛ لتواكب التوسع الهائل في أعدادهن، وتراعي ميولهن العلمية، والفروق الفردية بينهن، وتستحدث من أساليب التعليم ووسائله المشروعة ما يحقق أهداف تعليم الفتاة في المجتمع المسلم، ويُعدها بصورة أفضل وأكمل للاستفادة من العلوم والمعارف المتاحة بدافع ذاتي، ورغبة منبعثة من الداخل .
ب – نظام تعليم يراعي طبيعة مهام الفتاة الاجتماعية :
وكما يراعي نظام التعليم الفردي قدرات الفتاة، وإمكاناتها الذاتية المتاحة، فكذلك يراعي هذا النظام طبيعة ظروف الفتاة الاجتماعية، التي تنتج عن الزواج، ونوع المهام الفردية التي تقوم بها، والعمل الأسري المنوط بها ؛ فإن نظام التعليم التقليدي يُوقع الفتاة وأسرتها في حرج اجتماعي بين هذه المتطلبات الفطرية والطبيعية للأنثى، وبين تطورها العلمي، واستزادتها المعرفية.
وقد أفرز هذا الحرج الاجتماعي ثلاثة اتجاهات متباينة
حول مسألة الزواج، تهدف لمعالجة هذه المعضلة الاجتماعية
التعليمية :
الاتجاه الأول : تقديم الزواج على التعليم، فقد مالت كثير من الأوساط الاجتماعية إلى هذا الاتجاه، مقدِّمين الزواج على التعليم بصورة مطلقة، فأدَّى ذلك إلى تسرُّب كثير من الفتيات من التعليم – في الريف والحضر – وفي جميع المراحل التعليمية، مما دفع بعض الدول لفرض سن أدنى للزواج، ودفع بعض المنظمات المشبوهة للترويج لذلك، بحجة تمكين الفتيات من الحصول على حقوقهن التعليمية.
الاتجاه الثاني : وهو عكس الاتجاه الأول؛ حيث تُقدِّم هذه الفئة من المجتمع التعليم على الزواج مطلقاً، فأدَّى هذا الاتجاه إلى ارتفاع سن الزواج عند الفتيات، حتى أصبح التعليم سبباً رئيساً في التقليل من فرص الزواج، وظهور العوانس من الفتيات، وطالت – بالتالي – فترة طفولة الفتاة عند أسرتها، ريثما تتمكَّن من إتمام تعليمها ثم تتزوج، فلم يعد يبقى للفتاة المنهكة بأنظمة التعليم الحالية طاقة حيوية يمكن أن تقدمها لأسرتها المرتقبة، وإلى أهل بيتها في مستقبل حياتها .
الاتجاه الثالث : حاول هذا الاتجاه أن يجمع بين الاتجاهين المتعارضين، مستخدماً في ذلك وسيلتين إحداهما : الاستعانة بالخادمة، بحيث يكون التعليم في حد ذاته سبباً كافياً لجلب خادمة للبيت، حتى وإن كان الزواج حديثاً، وأما الوسيلة الأخرى : فمن خلال تحديد النسل، أو تأخيره، فقد أصبح وسيلة كثير من الفتيات للعلم، حتى غدت الرابطة قوية بين انخفاض خصوبة المرأة، وبين تفرغها للعلم من جهة ، وبين أمية المرأة، وبين ارتفاع خصوبتها من جهة أخرى .
إن هذه المعضلة الاجتماعية باتجاهاتها الثلاثة لا يمكن أن تُحل ضمن طبيعة أنظمة التعليم المعاصرة ؛ فإن لكل اتجاه مبرراته التي يتشبَّث
بها أصحابه – صحيحة كانت أو سقيمة – وسن الشباب المحدودة هي فترة العطاء والإنتاج، وزمن العلم والتحصيل، والفتاة في هذه السن تحتاج لعلم نافع تُنير به بصيرتها، وتحتاج للزواج للعفَّة والسَّكن، وتحتاج أيضاً للإنجاب والقيام بواجب الرعاية الأسرية، وكل هذه المتطلبات العلمية والفطرية والاجتماعية المتنوعة لا بد أن تتحقق للفتاة في وقت واحد تقريباً، وأية محاولة بائسة لدفع بعضها ببعض مصيرها - في الغالب- الإخفاق، مهما تذرع أصحابها بالحجج الواهية، فلن يكون أمام المجتمع سوى نظام التعليم الفردي، كحل لهذه المشكلة، يراعي حاجات الفتاة الأسرية، ورغباتها العلمية ضمن نظام مرن مفتوح، لا يطالبها بشيء مما تُطالب به الفتيات ضمن الأنظمة التعليمية التقليدية، وعندها فقط يمكن للفتاة أن تجمع بين هذه الحاجات المختلفة في وقت واحد، وبكفاءة جيدة .