28- التعليم عن بعد والواقع التربوي لمؤسسات التعليم التقليدية
تعيش أغلب الأنظمة التعليمية العالمية أزمة تربوية، دفعت أهلها إلى نقدها، وإعادة النظر في أدوارها، مما دفع – بالتالي – إلى ظهور نظريات وأطروحات جديدة تعتبر المدرسة – بوضعها الحالي – قد فقدت مشروعية وجودها، في زمن تجاوز حدود معطيات إنشائها، حين كانت ضرورية لخدمة المجتمع الصناعي الأول، بهدف إخراج عاملين وإداريين، إضافة إلى قصور دورها التربوي في تكامل بناء شخصية الطالب، حين اقتصرت على الجانب العقلي فحسب دون باقي جوانب الشخصية الإنسانية، وحتى تأثيرها في تنمية الاتجاهات الإيجابية عند الطلاب، وتعديل سلوكهم أصبح باهتاً ضعيفاً، فقد يمضي الطالب سنواته الدراسية، ثم يتخرج ولم تتمكن المؤسسة بعد من تكوين وتعديل اتجاهاته، إلى جانب أن المدرسة لم تعد المصدر الوحيد للمعرفة العلمية؛ فإن " دورة المعرفة إنتاجاً وانتشاراً وتوزيعاً، أصبحت اليوم تتم خارج جدران المدرسة، وتلك هي خلاصة الأزمة التربوية للمدرسة المعاصرة، ولأنظمة التربية العالمية الراهنة " .
وأما وضع المعلم المعاصر، باعتباره عنصراً أساساً في المؤسسات التعليمية، فقد ثبت يقيناً وجود ضعف عام في مستواه عند الباحثين
التربويين، وعند الطلاب الدارسين من الجنسين، وعلى المستوى الاجتماعي عموماً، حتى أخذت الأصوات تتنادى بضرورة إعطاء المعلمين تراخيص رسمية لمزاولة المهنة، فهبط بالتالي مستوى المؤسسة التربوية في العموم، وضعفت في نفوس الطلاب من الجنسين جاذبيتها التي تدعوهم للاستمرار فيها بصورة دائمة وجدية، ولم يعد فيها القدر الكافي من النشاط غير الصفي المفيد، والمكمِّل للعملية التربوية، الذي يحفِّز ويضمن مشاركة الطلاب، حتى غدت التوجهات التربوية قوية نحو إلغاء المدرسة كمؤسسة تربوية بالكلية، وأخذت مصطلحات تعليمية جديدة تظهر مثل :
" مدارس بلا أسوار "، " تلاميذ بلا حقائب"، "مدارس بعض الوقت "، بل إن بعض التلاميذ ربما ذهبوا إلى الدروس الخصوصية في وقت دوام المدرسة، إضافة إلى تقليص دور المعلم كمصدر رئيس للمعلومــات، وحصر دوره في جوانب علمية ضيقة لا تتجاوز حدَّ الإرشاد العلمي، والوساطة بين المتعلم والمعرفة، ومن ثمَّ توجيه المتعلم بقوة ليكتسب المعرفة العلمية بذاته، ويكون دور المعلم: مشاركته في اكتشاف المعلومات الجديدة لهما جميعاً، بحيث يكاد يتلاشى – في هذه العملية التربوية – التمييز بين المعلم والطالب، وعلى الرغم من أن هذا الواقع يدل على ضعف المعلم، باعتباره مصدراً للمعلومة، فقد تبنى هذا الأسلوب بعض التربويين، باعتباره أسلوباً تعليمياً فعالاً، ينمي دافع التعليم الذاتي.
إن ضعف دور المدرسة، وفقدان المعلم والمعلمة المعاصريْن لغالب المعايير الصحيحة لشخصية المربي: يُضعف الاحتجاج ضدَّ نظام التعليم عن بعد في تفويته مبدأ التفاعل بين المعلم والطالب: إذ هي أعظم حُجَّة يمكن أن تقف أمام التمكين لهذه الوسيلة التقنية الحديثة من أداء دورها التربوي، في عصر أصبحت الحاجة إليها ملحة، ومع ذلك فإن هذه القضية رغم أنها في الواقع التربوي المعاصر تقبع في أدنى مستوياتها ؛ حيث يشهد الواقع التعليمي تدنياً واضحاً في مستويات التفاعل بين المعلم والطالب، ومع ذلك فإن هذه المسألة هي الأخرى يمكن أن تُحل فنياً من خلال وسائل الاتصال نفسها، بما يحقق تدارك ما قد يفوت المتعلمين من التفاعل التربوي المتوقع، مثل استخدام خدمة الاتصال المباشر عبر الإنترنت .
وأما واقع الطالب، باعتباره حجر الزاوية، ومحور العملية التعليمية، فإنه لم يعد يحتمل – في كثير من الأحيان – جدران المدرسة، وأنظمتها الإدارية، حتى غدا التمرد والتعدي الجسدي من بعض التلاميذ على المعلمين سلوكاً شائعاً في مدارس اليوم، ولم يعد معلم اليوم – في الغالب – يملك القدرة الكافية على إدارة وضبط الفصل الدراسي بصورة جيدة، إضافة إلى تفشِّي أزمة الغش في الاختبارات بصورة كبيرة ، حتى أصبحت ظاهرة عالمية، تعاني منها غالب المؤسسات التعليمية .
وبناءً على ما تقدم فإن الذي يجب أن يعلمه المربون في هذه المسألة أن المدرسة ليست غاية في حدِّ ذاتها، وليست هي الوسيلة الوحيدة للتفوق العلمي، كما أن قدرتها على استيعاب جميع المتعلمين أمر بعيد، وغاية نظام التعليم المفتوح لا تختلف عن النظام المدرسي إلا في كونه يراعي حاجات التلاميذ، فيستخدم التقنية الحديثة في إيصال المعرفة العلمية إليهم خارج حدود المؤسسة التعليمية، مستغلاً في ذلك أفضل الوسائل التعليمية، وأحسن التجارب العلمية، ونخبة المعلمين البارزين ؛ لتقديم المنهج المدرسي والجامعي لجميع المراحل التعليمية، العامة منها والعليا – على حد سواء – في صورة علمية وتربوية متكاملة، فيتعلم الجميع صغاراً كانوا أم كباراً، ذكوراً أم إناثاً، ويتحقق الهدف التربوي المنشود من العملية التعليمية بتكاليف اقتصادية منخفضة، وتتجنَّب الفتيات والمجتمع ككل سلبيات المدرسة الحديثة التي يقع فيها كثير من الفتيات .
ولا ينبغي للمعلمين المعاصرين أن يشعروا بالتنافس من خلال هذا التوجه ؛ فإن بداية التليفزيون كانت في أصل الأمر للأغراض التعليمية فحسب، ثم جيَّره أهل الباطل لأغراضهم السلبية، فإذا عاد اليوم لدوره التربوي الذي اختُرع من أجله، فلن يكون منافساً بقدر ما يكون معاوناً ومساعداً في تحقيق الأهداف المنشودة من العملية التعليمية، فلا بد أن يتهيأ الجميع للتعامل الإيجابي مع النافع من تقنيات التعليم الحديثة ؛ فإن تطورها المطرد لن يقف عند حدِّ الرغبات الشخصية، أو الأنظمة التقليدية، وحاجة أفراد المجتمع، ولاسيما الإناث إلى التعليم متنامية، لا تفي بها الأساليب التعليمية القديمة .