74- دور تعليم الفتاة في المحافظة على التراث الإسلامي
إن المحافظة على التراث الإسلامي العريق، ونقله بأمانة من جيل إلى جيل ليس حكراً على الرجال – وإن كانوا في الغالب هم المهتمين به – فقد أجمع أهل الأثر على أن: " النساء فيه والرجال سواء ، وإنما المراعاة في ذلك الحفظ والإتقان والصلاح" ؛ فليست الذكورة شرطاً لصحة التقليد في العلم، بل يجوز تقليد المرأة في الجملة، وما ذُكر في استحباب مخالفتهن لا يصح منه شيء ؛ فقد كانت السيدة عائشة - رضي الله عنها – تحمل من علوم الدين ما قد يبلغ الشَّطر، فلا يجد أكابر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غضاضة في سؤالها عن علومها ومعارفها، حتى قال أبو موسى الأشعري – رضي الله عنه – : " ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة عنه إلا وجدنا عندها منه علماً " ، وقد كان لها كلمة الفصل في جمع من المسائل العلمية، وتوجيه فريد في طريقة الاستنباط والتعليم، حتى أصبحت محلَّ تنافس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واهتمامهم .
وأما تفرُّد بعض النساء بعلوم وأخبار لا تكاد توجد عند غيرهن، وإسهامهن في نقلها بأمانة: فهذا كثير شائع، كتفرُّد أم عطية – رضي الله عنها – في نقل خبر كيفية غسل الميت، وتفرد الفريعة بنت مالك بن سنان – رضي الله عنها – في نقل خبر العدة، وتفرد إحدى نساء الأنصار في نقل خبر سقوط طواف الوداع عن الحائض، وكذلك تفرُّد بعض التابعيات وإسهاماتهن الجليلة في نقل الأخبار، كتفرُّد عمرة بنت
عبد الرحمن – رحمها الله – زمن عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – بنقل مرويات عائشة – رضي الله عنها، حتى قال القاسم بن محمد لابن شهاب – رحمهم الله – : " يا غلام أراك تحرص على طلب العلم، أفلا أدلُّك على وعائه ؟ قلت : بلى، قال: عليك بعمرة، فإنها كانت في حجر عائشة، قال : فأتيتها فوجدتها بحراً لا يُنزف " .
وكذلك في الأزمنة المتلاحقة من تاريخ الأمة المجيد ، فما زالت
كثير من النساء يسهمن في خدمة تراث الأمة حتى قال الطبراني
صاحب المعاجم – رحمه الله – عن خدمة إحداهن لمرويات أبي قتادة – رضي الله عنه – : " لم يرو هذه الأحاديث عن أبي قتادة إلا ولده، ولا سمعناها إلا من عبدة، وكانت امرأة عاقلة فصيحة متدينة " ، وكتب أبو القاسم
عبد الواحد بن محمد بن جعفر بخط يده: " حدثتنا أم سلمة فاطمة بنت
عبد الله بن سليمان ابن الأشعث السجستاني, إملاءً من حفظها, في منزل أبي إسحاق المزكي, في سنة اثنتين وستين وثلاثمائة " ، وقد بلغ التفوق بإحداهن في خدمة العلوم الدينية أن وصفت بمسنـدة أهل العراق، حتى إن العلامة البارع ابن الجوزي – رحمه الله – قرأ عليها وأخذ عنها.
لقد أدرك السلف أن " التربية وسيلة المجتمع التي بها يحافظ على وجوده واستمراره بدمج الأجيال اللاحقة إلى الأجيال السابقة في إطار قيمه وأهدافه السائدة "، فأعطوا للنساء عبر الأجيال فرصة الخدمة المشكورة في نقل التراث، ضمن مجتمع إسلامي راقٍ، شاعت فيه العلوم والمعارف بين جميع الأفراد – ذكوراً وإناثاً – حتى إن بعض مجالس العلم يحضرها عشرات الألوف من الأنفس، وقد قال المستشرق كوستاف لوبون عن جهود النساء المسـلمات في نقل التراث الإسلامي : " إن النساء المسلمات قد أخرجن في الدهر الغابر من المشهورات العالمات بقدر ما تُخرج مدارس الإناث في الغرب اليوم " .
ومن هنا فلا بد أن تُتاح فرص التعلم للفتيات المسلمات المعاصرات للإسهام الجاد في خدمة التراث الإسلامي, تشبهاً بنساء السلف الفضليات، وتشرُّفاً بخدمة هذا الدين .