أهمية التعليم للفتاة المسلمة
الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير معلِّم ومربٍّ، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد . .
فإن الأنثى البشرية أحد نوعي الإنسان، الذي يفتقر إلى ما يفتقر إليه الإنسان في العموم، من الحاجات المادية والمعنوية، التي تحقق للإنسان: استقراره الاجتماعي، وراحته النفسية، ونضجه العقلي، إلا أن الدرجة الكافية من هذه الحاجات تختلف من شخص إلى آخر، حسب الجنس، ونوع الوظيفة الاجتماعية، فما قد يكون ضرورة عند شخص ما، قد يكون بالنسبة لآخر حاجة ليست مُلِحَّة، لا يتضرر كثيراً بفقدها، وهذا الفهم جارٍ – إلى حد كبير – بين طبائع الإناث، وطبائع الذكور، فليست أنواع حاجات الجنسين، ودرجات الإشباع منها، وأوقات تحقيقها : في مرتبة واحدة عند الجنسين، فما قد يكون ملحًّا في وقت مبكر بالنسبة للشاب، قد تتأخر الحاجة إليه بالنسبة للفتاة، وما قد يكون ملحًّا للفتاة، قد يتأخر مطلبه بالنسبة للشاب، وما قد تكون الحاجة إليه كبيرة بالنسبة للرجال، قد تكون كمالية بالنسبة للنساء، والعكس أيضاً صحيح، فالطبائع بين الجنسين، بقدر ما بينهما من التشابه؛ فإن ما بينهما من الاختلاف قد يكون أكبر .
ولعل مما يوضِّح هذا الفهم : اختلاف الحاجات ودرجتها بين الجنسين في مسألة التبكير بالزواج، ففي الوقت الذي تتضرر فيه الفتاة بتأخير سن الزواج، فيفوتها وقته المناسب، ويقلُّ في حقها فرص الاختيار: لا يتضرر الشاب كثيراً بتأخيره، فما تزال فرص الاختيار المناسب متاحة له إلى حد كبير.
وكذلك الشأن في مسألة التعليم، والحصول على المهارات التعليمية للتأهيل لسوق العمل، فإن الشاب يتضرر ضرراً كبيراً بضعفها أو تأخيرها، في حين تبقى هذه المتطلبات بالنسبة للفتاة حاجات لا تصل عندها حد الضرورة الملحة، التي تتضرر بتأخيرها أو ضعفها، رغم التقارب الشديد في هذا العصر بين أهداف تعليم الجنسين، إلا أن الاختلافات في الدرجة بينهما، وأنواع الحاجات لا تزال قائمة .
ولقد راعت المجتمعات الإسلامية في عصورها المتعاقبة السابقة هذه الطبائع والحاجات المختلفة بين الجنسين، فقدَّموا ما يقتضي التقديم، وأخَّروا ما يقتضي التأخير؛ بهدف تحقيق مصالح المجتمع، وإعداد كل جنس لدوره الاجتماعي المنوط به، فكانت أنظمة التعليم أصيلة النزعة، انطلقت من جذور الأمة الفكرية والثقافية، تحقق أهدافها، وتبني أوطانها، وفق مبادئها العقدية والأخلاقية، فتعلم الجميع في المجتمع، بما فيهم الأطفال والنساء والعبيد، وفق أنظمة تعليمية تراعي حاجات الناس، وطبائعهم الفطرية، وأدوارهم الاجتماعية، ولم يكن العلم يُحجب عن أحد من المسلمين أياً كان، حتى إن الصغيرة من البنات ربما بُدئ بتعليمها في الرابعة من عمرها، أو الثانية، أو ما هو دون ذلك ؛إذ لم يكن تعليم المرأة – في ذلك الوقت – موضع نقاش، وإنما حق للجميع يبذله المجتمع لكل أعضائه، في الوقت الذي تأخر فيه هذا الحق عن النساء في أوروبا إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
ومن المفارقات العجيبة أن الأمة الإسلامية في محاولاتها الحديثة للنهضة، وسعيها للخروج من أزماتها الحضارية المعاصرة : لم توفَّق للانطلاقة من تراثها الحضاري السابق، ولم تهتدِ إلى المنهج الراشد للأخذ والانتقاء عن الأمم المتقدمة، وإنما سلكت نهج التقليد المذموم، الذي لا يصنع أمة، ولا يبني حضارة ؛ ولهذا تشير الإحصاءات الحديثة في العالم العربي إلى تفشِّي الأمية بصورة واسعة، رغم المحاولات الكثيرة، والجهود الكبيرة لتخطي هذه العقبة، فما زالت المسافة شاسعة بين الواقع والمأمول، وحتى النجاح الذي تحقق في بعض المناطق من العالم العربي والإسلامي في تخطي عقبة الأمية : أعقبه إخفاق شديد في تدني مستوى التعليم ومخرجاته، فالتطور الكمي في العالم الإسلامي في مجال التعليم لم يواكبه تطور نوعي يحقق حاجات الأمة وتطلعاتها، ويقيلها من عثرتها، وسبب ذلك يرجع إلى أن الدول
النامية – وغالبها دول إسلامية – "غدت معرضاً عالمياً كبيراً لأشتات من النماذج والفلسفات التعليمية الوافدة من كل أنحاء العالم الصناعي، وأنها تحاول تطبيقها كما هي، أو مرتدية شعارات التجديد والتطوير، في بيئة تختلف عن بيئاتها الأصلية"، بمعنى آخر فإن " النظم التعليمية لأي مجتمع هي نتاج طبيعي للتطور التاريخي، تحمل العناصر الثقافية، وتعكس الواقع الاقتصادي والسياسي لذلك المجتمع ؛ لذلك فإنه ليس في إمكان المرء أن يستعير – طوعاً أو كرهاً – ما يبدو مفيداً في دولة ما، ثم يتوقع منه أن يكون مفيداً عندما ينقل خارج بيئته الطبيعية "، وهذا ما أدركه العالم الثالث، بعد رحلة طويلة من الشتات بين النظم التعليمية الوافدة، فهي نتيجة طبيعية لكل مجتمع يريد أن يحيا بغير ثقافته، وينطلق بعيداً عن تراثه.
ومن المفارقات العجيبة أن التعليم كان السبب الرئيس والأساس في النهضة الحديثة لليابان وكوريا، كما أشارت إلى ذلك كثير من الدراسات، في الوقت الذي لم يحقق فيه التعليم في الوطن الإسلامي آمال شعوبه وتطلعاتهم، حسب ما كان متوقعاً .
ومن هنا كان لزاماً على أنظمة التعليم أن تنطلق من قاعدة الأمة التراثية، وثقافتها الإسلامية، متوخية الحذر من الوافد الثقافي على أنظمتها التعليمية، ولاسيما المتعلقة بتعليم الفتاة المسلمة، فإن للمرأة في التصور الإسلامي خصوصية تتميز بها عن المجتمعات الأخرى، وحاجات فردية ومتطلبات اجتماعية : تحتم على نظام التعليم مراعاتها، وأخذها بعين الاعتبار، سواء كان في : أساليب التدريس، أو مضامين المناهج، أو أنواع التقويم، أو الأنظمة الإدارية ونحوها .
ولا شك أن في التراث التربوي الإسلامي معالم عامة لنظام تعليم الفتاة، يمكن أن تكون نبراساً لأنظمة تعليم الفتاة الحديثة، تنهج على طريقها، مستفيدة من الجديد النافع، بمنهج راشد قويم، يميِّز بين المصلحة والمفسدة، ويعتمد الأصالة في غير تزمُّت، والمعاصرة في غير تفلُّت، على النهج الذي نصَّ عليه ملوك ورؤساء الدول الإسلامية في القمـة الثالثـة المنعقـدة في المملكة العربيـة السعوديـة عام 1981م، فيما يُسمى: " بلاغ مكة المكرمة "، الذي جاء فيه : " إيماناً منا بما نصَّت عليه مبادئ الإسلام من أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، فإننا نعلن العزم على التعاون، بهدف التوسع في نشر العلم، وتعزيز مؤسساته، حتى يتم القضاء على الجهل والأمية، وكذلك العمل على ترسيخ المناهج الإسلامية في التربية والتعليم . . . ونتعاهد أيضاً على تنسيق جهودنا في مجال التربية والثقافة لكي تستمد من مصادر ديننا، ومناهل تراثنا : ما يوحِّد الأمة، ويوطِّد ثقافتها وتضامنها، ويطهر تراثنا من ظواهر الانحلال والانحراف، ويزكيها بمكارم الأخلاق، ويحصِّن النشء من الجهل، ومن المبادئ المناهضة للإسلام . . . ".
ورغم الإجماع المعاصر على حق الإناث في التعلم، والحصول على المعرفة العلمية في مختلف جوانب المعرفة الإنسانية، إلا أن صيغ تمكينهن من حق التعلم، وأساليب إيصال المعرفة العلمية إليهن بقيت قاصرة في العصور الحديثة عن القيام بحقوقهن، مراعية في ذلك: طبيعتهن الفطرية، وحاجاتهن الاجتماعية، وحدود قدرات الواحدة منهن المتاحة، عبر مراحل عمرها المختلفة .
ومع أن الظروف المختلفة - في كثير من الأحيان – تتنوع في حق المتعلمين من الذكور: فإنها تتشابه – إلى حد كبير – بالنسبة للمتعلمات من الإناث، حين تجمعهن المهمة الاجتماعية، والمسؤولية الأسرية، والخصوصية الشرعية، مما يتطلب نظامًا تعليميًّا وإداريًّا مرنًا، يراعي ذلك منهن، ويحقق لهن – في الوقت نفسه – درجة كافية ومشبعة من المعرفة العلمية المتنوعة، التي تعدُّهن جميعاً -في الدرجة الأولى- للقيام بأدوارهن الاجتماعية والأسرية، وتهيئ قسمًا آخر منهن للقيام بفرض الكفاية، من: المعلمات والطبيبات والممرضات والاجتماعيات ونحوهن، ممن يحتاج المجتمع إلى خدماتهن .
وعلى الرغم من وضوح هذه الوجهة التربوية في حياة المسلمين في العصور السابقة: تداخلت – في العصر الحديث – أنظمة وأهداف وأساليب تعليم الجنسين في العالم عمومًا، وفي الوطن الإسلامي على الخصوص، إلا في مناطق قليلة، وفي حدود ضيقة، مما نتج عنه تداخل في أنواع المهام بين الجنسين، وتشابه في أدوارهما الاجتماعية، وهذا من شأنه تبديل للفطرة الربانية، وتغيير للطبيعة التي أوجد الله تعالى كل جنس عليها، مما يؤدي إلى غياب الهدف من التنوع الجنسي، وإلغاء مبدأ تكامل الأدوار بين الجنسين .