الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على النبي الكريم ، وعلى آله وصحبه أجمعين . . أما بعد ، فمنذ الثورة الفرنسية عام 1789م ، والعالم يتجه نحو تأكيد الحريات ، والتخفف من الالتزامات الدينية ، والانطلاق بالإنسان نحو آفاق بعيدة لا حدود لها ، تؤكِّد فرديته ، وتقيمه في مقام الملوك والآلهة ؛ حين تنصبه في موضع حرية مطلقة ، لا يحكمه أحد ، ولا يلزمه شيء .
ولقد أخذ النموذج الغربي – بعد الثورة الفرنسية – موقعه في العالم الحديث – في ظل غياب المسلمين وتخلفهم – فأخذ مرَّة يصف نموذجه النهوضي للآخرين ، ومرَّة أخرى يفرضه عليهم فرضاً ، حتى غدا العالم الثالث لا يجد أمامه سوى النموذج الغربي ؛ للخروج من أزماته الاقتصادية ، والانعتاق من ربقة التخلف والتبعية .
ولم تنقضِ الألفية الثانية حتى أيقن العالم الثالث أن النموذج الغربي لا يصلح لغير أهله ، فكانت النتائج الاقتصادية مدمِّرة للمنطقة ، ومخيِّبة للآمال ن فما ازداد الأغنياء إلا غنىً ، وما ازداد الفقراء إلا فقراً ، وبقي المتخلفون في مواضعهم ، بل ربما ازدادوا تخلفاً ، فقد أخفقت كل الخطوط التنموية ، ووصل إنسان بعض المناطق الإفريقية والآسيوية إلى أسوأ عصوره ، وبلغت المديونيات على الدول النامية – ومنها الدول الإسلامية – أرقاماً فلكية ، تفرض عليها البقاء في أزماتها الاقتصادية لعقود لاحقة ، والعجيب أن الدول المتقدمة كانت تؤمِّل الدول النامية بأن الفترة من 1950م إلى 1970م ، سوف تكون فترة خروج هذه الدول من تخلفها إلى واحة الرفاهية والتقدم !!
ولم تكن الأزمة الاقتصادية الخانقة لتنتهي إلى هذا الحد ، حتى تتوَّجت بظاهرة العولمة ، مع نهاية الألفية الثانية ، وبداية الألفية الثالثة ، لتجهز على البقية الباقية من خيرات العالم الثالث الاقتصادية ، وتسيطر على أسواقه التجارية، إضافة إلى فرضها للثقافة الغربية بصورة عامة ، والنموذج الأمريكي بصورة خاصة ، بعد أن تمكَّن العالم الصناعي من إحكام قبضته على وسائل الاتصال ، التي حققت مؤخراً انتصارات مذهلة على البعدين الزماني والمكاني، مما شكَّل – في مجموعه – تحدياً ثقافياً واقتصادياً وسياسياً لدول العالم الثالث بصورة عامة ، ودول العالم الإسلامي بصورة خاصة ، مما دفع بعض الجهات التربوية إلى التوصية والتأكيد على : " ضرورة صياغة مشروع حضاري لحفظ الهوية الإسلامية، والتعريف بها في ظل العولمة " .
إن العولمة في حقيقتها لا تعدو أن تكون صورة من صور الرأسمالية الجديدة ، التي برزت بعد التفوق المذهل لوسائل الاتصالات الحديثة ، فقد مرت الرأسمالية بثلاث مراحل ، بدأت بالرأسمالية التنافسية ، ثم الرأسمالية الاحتكارية ، ثم الرأسمالية الكونية ، وهو ما اتُّفق على تسميته بالعولمة ، التي تهدف إلى زيادة تدفق رؤوس الأموال ، والتوسع في معدلات نمو التجارة الدولية، التي تحكمها مجموعة من الشركات التجارية العالمية الكبرى ، في عالم بلا دول ولا أمم ولا أوطان ، تعمل بقوة على الاندماج الكامل في جميع مناشط الحياة الإنسانية ومظاهرها المختلفة : المدنية والعسكرية ، التعليمية والصحية ، الأسرية والاجتماعية ، بحيث تستوعب كل هذه المناشط المتنوعة ، بكل تفصيلاتها المختلفة ضمن أنشطة السوق الاستهلاكية ، فلا يبقى من الأنشطة البشرية العامة أو الخاصة شيء خارج نطاق السوق الاستثماري ، فتقدم للمستهلكين من خلال السوق ، في صورة سلع وخدمات اقتصادية .
وتأتي هذه السيطرة الاقتصادية الدولية ، بكل ما تحمله من القوة الجارفة، والشمول العام ، مدعومة بقرارات خفية ، مفادها : ضرورة بقاء الدول النامية قابعة في تخلفها ، ليقابل كل ذلك تدنٍ عام في البيئة الاقتصادية للدول الإسلامية ، وتعسُّر مزمن في التعاون الاقتصادي فيما بينها ، مع تخلف علمي، وفساد إداري ومالي ، قد استشرى في الهياكل الإدارية ، ونظمها العامة، وواقعها التطبيقي .