إن من أسمى أهداف تعليم الفتاة المسلمة اليوم : محاولة إعادة بناء ثقافتها العلمية من جديد على النهج المتفوق الذي كان عليه النساء في العصور الإسلامية المتقدمة، التي شاع فيها العلم بين النساء كما شاع بين الرجال، لا يُحجب عنه أحد , حتى إن الرحالة ابن النجار ذكر أنه أخذ علماً عن أربعمائة امرأة، وذكر الذهبي في تعداد شيوخه مائة امرأة، وأخذ كل من السمعاني( ت 562هـ ) وهشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي عن سبعين منهن، وروى ابن حجر عن خمسين امرأة، والسيوطي عن اثنتين وأربعين منهن، وقد أفرد جمع من المُترجمين أقساماً خاصة, جمعوا ودوَّنوا فيها أسماء النساء الفضليات ممن نُقل عنهن العلم .
لم يكن هذا التفوق العلمي بين النساء لينبعث من عند نفسه , دون جهود اجتماعية صادقة في بثِّ المعرفة بينهن للرفع من مستواهن العلمي؛ فقد أنشأ بعض السلاطين لهن المدارس خاصة، وأقيمت في قصور بعضهم حِلَقٌ علمية لهن، فقد كان العلم يُفاض عليهن فيضــاً بلا حساب، حتى ما تكاد توجد في بعض نواحي البلاد الإسلامية امرأة أمية ؛ بل وحتى الإماء من الجواري المملوكات نلن نصيبهن العلمي في الجو الاجتماعــي العـام ، حتى إن جاريــة لبنـت الإمام مالك بن أنس– رحمه الله – تعرف أدقَّ تفاصيل البيع والشراء، مما قد يغفل عنه بعض فضلاء ذلك الزمن .
وكان بعض الأمراء في بلاد المغرب يجبر من تحته بتعليم الإماء وتأديبهن، فقد كتب السلطان العلوي المولى إسماعيل عام ( 1137هـ ) إلى بعض من عنده من الخدم : " ولا يدع أحد منكم واحدة للخروج من غير فائدة، ومن كانت عنده أمة منهم وتركها للخروج أو من غير تربيــة ولا فائدة نقطـــع رأسه . . . كما نأمر خديمنا الطاهر أن يرسم كل أمة باســمها وسنها على من هي عنده، ويحرِّضه على تعليمها وأدبها بالعدول . . . " .
ومما يدل على الاهتمـام بتعليم الإنــاث أيضاً ما يقوله الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي (ت 1331هـ ) عن بلاد شنقيط في بداية القرن الرابع عشر الهجري، وهي ما تُسمى اليوم بموريتانيا: " أما الزوايا فلا يوجد من بينهم ذكر ولا أنثى إلا ويقرأ ويكتب، وإن وجد في قبيلة غير ذلك فإنه نادر، بحيث لا يوجد في المائة أكثر من واحد على تقدير وجوده"، بل إن بعض النساء في تلك البلاد تحفظ مدوَّنة الإمام مالك بن أنس بكاملها , فقد ذكر بعض الفضلاء من أهل تلك البلاد أنه كان عندهم مائتا امرأة تحفظ المدونة بكاملها عن ظهر قلب, ومن المفارقات العجيبة أن هذه البلاد التي يتحدث عنها الشيخ وصلت فيها الأمية عام 2000م إلى 50%، ويشير تقرير للبنك الدولي لعام 2002م إلى أن الأمية تسيطر على 60% تقريباً ممن تجاوز الخامسة عشرة ، وذلك بعد صيحات المناداة بتحرير المرأة وتعليمها!!
رغم كل هذا التقدم العلمي للمرأة والفتاة المسلمة في زمن النهضة الإسلامية : كانت المرأة الأوروبية تغط في جهل لا حد له، ويعلن فيلسوفهم المشهور سقراط : أن تعليم البنات لا يزيدهن إلا شراً، فتضطر المرأة الأوروبية لأن تمكث عشرات السنين تجاهد في إقناع المجتمع بقبول المفهوم الجديد عن تعليم المرأة، وأنه ليس بشر لها ، حتى إن التعليم الثانوي في فرنسا لم يكن للفتيات فيه نصيب حتى عام 1870م، وما تقرر التعليم الإلزامي عندهم إلا عام 1934م، وفي ألمانيا زمن الزعيم العسكري هتلر لم يكن الإناث يمثلن أكثر من عُشر طلاب الجامعة، كما أنه لم يُمكَّن الفتيات من التعليم الجامعي في أسبانيا إلا عام 1910م، حتى إنه لم يدخل النساء جامعة لوفان الكاثوليكية في بلجيكا إلا عام 1920م، وكانت الأمية تعم 80% من الرجال، و87% من النساء في روسيا ؛ ولهذا احتاجت مجتمعاتهم إلى جمعٍ من المؤتمرات والتوصيات والنصائح ؛ للتأكيد على حق الإناث في التعليم، ورفع آصار الأمية عنهن .
إن الأمة الإسلامية المعاصرة لا تحتاج إلى أمم الغرب للاقتداء بهم في تعليم الفتيات، بل تحتاج لأن تستلهم تاريخها المجيد الحافل بالمعارف والعلوم المشاعة بين العامة قبل الخاصة، وبين الإماء قبل الحرائر ؛ لتنطلق منه نحو إعادة بناء التفوق العلمي للفتيات المسلمات المعاصرات على نهج السلف الصالح .