الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين والعابدين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين... أما بعد،
فقد اختلف العلماء في حكم التداوي بالأدوية المباحة، أهو من المباحات، أو المستحبات، أو المكروهات، والصحيح أنه من المستحبات؛ فقد سنَّ رسول الله لأمته التداوي، ومارسه هو بنفسه، ونعت للناس جمعاً من الأدوية لأنواع من الأمراض، وأجاب حين سئل عن التداوي فقال عليه الصلاة والسلام : «نعم، يا عباد الله تداووا ؛ فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاء...»، وكذلك الخلفاء من بعده؛ فقد دُعي أكثر من طبيب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طُعن، فلم ينكر ذلك.
إذا تقرر استحباب التداوي، أو جوازه على أقل تقدير: فإن هذا الأمر لا يتحقق إلا بوجود الخبير، الذي يعرف الأدواء، ويميِّز بينها، ويعرف الأدوية التي تناسبها، وهو ما اصطلح على تسميته بالطبيب، فلا بد من برامج شاملة لإعداده لهذه المهمة الإنسانية الحيوية، ومن ثمَّ تمكينه من مزاولة عمله في خدمة المرضى.
ولا تقف مهمة الطبيب – في القديم والحديث – عند حدِّ تشخيص الداء ، ووصف العلاج، وإنما تتعداه – في كثير من الحالات – إلى جسِّ المريض، أو التدخل بالأدوات – الحادة أو الساخنة – للقطع، أو الكي، أو الفصد، ونحوها من مهام الأطباء المعالجين، مما قد يتطلَّب كشف العورات لمعرفة ما انطوت عليه الأجساد، من الأسقام الظاهرة أو الباطنة، مما لا يعرفه الطبيب – عادة – إلا بكشف الأبدان، وظهور العورات، مما جاءت الشريعة بوجوب أو استحباب ستره من الأجساد.
ولما كانت الأمراض أمراً عاماً، يشترك فيه الجنسان - الذكور والإناث - فيحتاج الجميع إلى تشخيص الطبيب، وربما إلى تدخُّله بالنظر والجسِّ ونحوهما : وقع الحرج في شأن المرضى من النساء، لا سيما وأنهنَّ – بسبب المهمة التناسلية – أحوج إلى كشف العورات من الرجال، مما تطلَّب تدابير خاصة بشأن النساء، تراعي طبيعتهن الأنثوية، ومهمتهن الفطرية؛ فإن شأن العورة في الشريعة الإسلامية شديد، لاسيما عورات النساء؛ فإن ساحة العورة في حقهن أوسع، وحكمها في حقهن أغلظ، وفي الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: « إنما النساء عورة...».
ومن هنا كان لا بد من السعي الحثيث لستر عورات النساء المحتاجات للتطبيب، وهذا لا يتم بصورة صحيحة إلا حين يكفي النساء بعضهن بعضاً، لاسيما في ميدان الصحة التناسلية، وحاجات التمريض، والرعاية السريرية في المستشفيات والمصحَّات، ويكون تدخُّل الطبيب محدوداً ضمن الضرورة الشرعية التي لا بد منها.
إن المجتمع الإسلامي حين ينطلق في تعامله الطبي، وممارسته الصحية، مصطحباً أخلاقه ومبادئه: لا ينطلق من فراغ، وإنما ينطلق من قواعد شرعية محكمة، ومبادئ أخلاقية راسخة، انعكست على المؤسسة الصحية – كما انعكست على جميع مؤسسات المجتمع الأخرى – صبغة إسلامية خاصة، صبغتها بطابعها الإيماني والأخلاقي، مع ما حفَّ ذلك من الإنجازات الطبية الفائقة، التي تُعدُّ مفخرة للأمة، ولكل منصف عاقل، يحترم نفسه، ويقدِّر الإنجاز الحضاري، هذا في الوقت الذي عجزت فيه أوروبا عن اصطحاب معتقداتها النصرانية، وتصوراتها الكنسية في طريق نهضتها العلمية الحديثة؛ لتصادمها مع العلم الذي دلَّ عليه العقل الصريح، مما دفع الأوروبيين لنبذ كثير من معتقداتهم وتصوراتهم العائقة في سبيل النهضة الحضارية؛ ففي الوقت الذي كانت فيه شريعتا اليونان والرومان تحرِّمان على المرأة تعلُّم الطب، وسيران هذا المنع إلى بعض حواضر أوروبا الحديثة: كانت المرأة المسلمة منذ الزمن الأول تتعلم شيئاً من العلوم الطبية، وتمارس أعمال التمريض، ويُقرُّها صاحب الرسالة – عليه الصلاة والسلام – على ذلك، حتى قال عروة بن الزبير – رضي الله عنهما – في وصف حال خالته السيدة عائشة – رضي الله عنها - : « ما رأيت أحداً أعلم بالطب منها »، وقد سجَّل التاريخ في العصر النبوي جمعاً ممن عُرفن بالتمريض والخبرة الطبية، ممن كنَّ يشاركن في رعاية الجرحى في المعارك الإسلامية، وقد استعان بعض الأطباء المسلمين – في فترات تاريخية سابقة – بالمرأة الخبيرة في علاج النساء، فلا إشكال – في التصور الإسلامي – في مبدأ تعلُّم المرأة للطب، بل ولا إشكال في تعلُّمها أيَّ علم صالح مفيد، وإنما الإشكال الذي يطرأ هو في وسيلة التعلم، وفي موضع الممارسة الميدانية، ففي الوقت الذي يأذن فيه كثير من الفقهاء المعاصرين بالنظر إلى العورة في سبيل حصول الطلاب والطالبات على المعرفة الطبية، فإنهم – مع ذلك – ينهون عن فوضى الاختلاط بين الجنسين في ميدان الممارسة الطبية، الذي تعجُّ به غالب المستشفيات الحديثة، إضافة إلى كشف العورات المحرمة، والنظر إليها لغير ضرورة شرعية.
إن الوجهة الاستثمارية الحديثة التي غلبت على النظام الصحي بوجه عام، والطبيعة الاقتصادية المعاصرة التي سيطرت على أساليب التعامل الطبي بوجه خاص: قلَّلت من حجم الضوابط الأخلاقية بين الجنسين في ميادين التعلم والممارسة الطبية، ضمن المفهوم الاقتصادي المجحف : "إنتاج أكثر بتكاليف أقل"؛ بحيث تقل النفقات في المشاريع الطبية إلى أقلِّ حدٍّ ممكن، ولو أدَّى ذلك إلى الاختلاط بين الجنسين، أو الخلوة الممنوعة، أو كشف العورات لغير ضرورة شرعية، إضافة إلى الأساليب التجارية في استغلال الفتيات الحسناوات، للترويج للمشاريع الطبية، من خلال جذب الزبائن، والترويح عن المرضى.
ولقد حلَّ المجتمع الإسلامي في السابق هذه الأزمة الأخلاقية، حين وقف في وجه الأهداف الاستثمارية الضيقة، التي لا تعترف بالأخلاق كقيمة إنسانية عالية، لا يصحُّ أن تُهدر في سبيل الكسب المادي، وذلك حين قام الوقف الإسلامي الخالص لوجه الله تعالى في دعم الأنشطة الصحية: تعلماً وتعليماً وممارسة، مما كان له الدور الكبير في حفظ الأخلاق، وضبط السلوك، فكان من المفروض على المسلمين المعاصرين أن ينطلقوا في نهضتهم الطبية الحديثة من عمق تاريخهم، ومن أصول ثقافتهم، بدلاً من أن يكونوا مجرد مقلِّدين للنماذج الطبية المعاصرة، التي تنكَّبت – في غالبها – المبادئ الأخلاقية، في سبيل الكسب المادي.
ويمكن تلخيص الواقع الطبي الحديث وموقف التربية الإسلامية من تخصص الفتيات الطبي في النقاط الآتية :
1 – ترك سلف الأمة الإسلامية للأجيال المسلمة المعاصرة والقادمة : ذخيرة من العلوم الطبية، شملت الجانبين النظري والتطبيقي، إضافةً إلى جمع من الأحكام والنظم الفنية والإدارية، التي تضبط عمل الهيئة الطبية في أدائها الصحي، ضمن فنيَّات المهنة من جهة، وآداب الشرع وأحكامه من جهة أخرى.
2 – تحترم التربية الإسلامية تخصُّص الفتيات في المجال الصحي– تطبيباً وتمريضاً – لاسيما فيما يتعلَّق بصحة النساء التناسلية، وتعتبره من فروض الكفاية، التي يلحق المجتمع الإثم بالتقصير فيها، وإنما الإشكال يقع في أسلوب إعداد الفتيات للمهن الطبية، وواقع ممارستهن لمهامهن الميدانية، ضمن المجتمع الطبي الحديث.
3 – يشهد المجتمع الطبي المعاصر مخالفات شرعية في طبيعة العلاقة بين الجنسين، وحدود كشف العورة، ونحوهما من المخالفات السلوكية التي توجب إعادة النظر في طبيعة النظام الطبي المعاصر، في ضوء آداب وتوجيهات التربية الإسلامية.
4 – رغم وجود جمع من الطبيبات في الحياة المعاصرة، وفي العصور السابقة إلا أن الطبيب من الرجال لا يزال يحظى بالمكانة العلمية الأعلى، والأداء الطبي الأفضل، والتاريخ الصحي الأطول عبر الحياة الإنسانية الماضية ؛ فقد غلب على النساء المنتسبات إلى الهيئة الطبيَّة في الماضي صفة الممرضة، أكثر من اتصافهن بصفة الطبيبة؛ فقد غلب الرجال – من المعلمين والطلاب – على الميدان الطبي، فصعُب على المرأة المسلمة الاختلاط بهم، فاقتصرت المرأة – في الغالب – على ما تتلقاه عن محارمها الأطباء، وما تحوزه من الخبرة الطبية في المحيط الأسري .
5 – استأثر النساء المسلمات منذ القديم بمهمة القبالة، لا سيما الجانب العملي منها، فلم يمارسها الأطباء الذكور، إلا من جهة التأليف العلمي، وتوجيه القابلات وتثقيفهن بما يحتجن إليه من المعرفة العلمية عند الحاجة.
6 – قام نظام المستشفيات في تاريخ المسلمين على مبدأ الفصل بين الجنسين؛ بحيث ينقسم المستشفى الواحد إلى قسمين حسب الجنس، ويبقى الاشتراك في شخص الطبيب عند الضرورة، وبقدر الحاجة، وقد قامت بعض تجارب ناجحة في الحياة المعاصرة ، معتمدة على هذا الأسلوب.
7 – يسيطر النموذج الغربي على مجالات الأنشطة الطبية المختلفة، سواء كان ذلك في مجال إعداد الهيئة الطبية، أو أنظمة وأساليب الممارسة الميدانية، مما صبغ المؤسسات الطبية المعاصرة بالصبغة الغربية، التي تتعارض - في كثير من جوانبها - مع ثقافة المجتمع المسلم، وعاداته وتقاليده.