إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أدَّبه ربه فأحسن تأديبه، وعلمه من العلوم ما لم يكن يعلم، فكان المؤدب والمعلم الأول، عليه الصلاة والسلام . . . أما بعد
فعلى الرغم من الأهمية الكبرى، والمكانة العظمى لمقام التوحيد في الشريعة المحمدية الخاتمة، إلا أن أول ما نزل من القرآن الكريم لم يكن ليقرر قضية التوحيد بل ليؤكد قضية العلم التي عليها يقوم مقام التوحيد، الذي يُعد محور الوحي الرباني، وقضيته الكبرى .
وإن الناظر في القرآن الكريم والسنة المطهرة لا يحتاج إلى تأمُّـل كثير ليدرك مكانة العلم في التصور الإسلامي، وما أفاضه المولى – عز وجل – من عظيم الثناء والإجلال للعلم والعلماء وطلاب العلم ؛ فكلمة " علم " ومشتقاتها – مما يفيد معنى العلم والتعلم – وردت (781) مرة، وقيل (750) مرة في القرآن الكريم، وهذا – بلا شك – فيه دلالة واضحة بيِّنة على مكانة العلــم والتعليم في منهج الإســلام التربوي، حتى استطاع التابعي الجليل محمد بن شهاب الزهري – بعد استقرائه الشريعة الإسلامية – أن يقول : " ما عُبدَ الله بشيء أفضل من العلم " .
والمتتبع للآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتعلقة بالشأن التعليمي يجدها موجهة إلى جنس الإنسان مطلقاً، وليست خاصة بأحد نوعيه ذكراً أو أنثى ؛ فالخطاب القرآني في الغالب خطاب عام يشمل نوعي الإنسان، إلا ما دل الدليل على اختصاصه بأحد النوعين؛ ولهذا لم يشترط العلماء لمقام الاجتهاد الشرعي الذكورة ؛ لأن ما جاز للرجل من قابلية الاجتهاد جاز للنساء ، ولكن لما كان إقبال الرجال على العلم والاجتهاد أكثر من إقبال النساء – كما هو الواقع في الغالب – استحسن العلماء تشبه النساء بالرجال في العلم والرأي، دون اللباس والهيئة .
ولئن كان التعليم يحقق للفتاة المتعلمة أغراضاً شخصية فإنه – إلى جانب ذلك – يحقق للمجتمع المسلم أغراضاً قد تكون أهم وأكبر في الجملة مما يتحقق للفتيات المتعلمات، فالرقي الاجتماعي، والتقدم الحضاري، وإحياء التراث الإسلامي، وغيرها من المقاصد الحسنة لا يمكن أن تتحقق للمجتمع المسلم إلا من وراء تعليمه الفتاة، وتربيته إياها, إلا أن هذه المقاصد الحسنة لا يمكن أن تتحقق على الوجه الصحيح، وتؤتي أُكُلها إلا ضمن نظام تعليمي أصيل، منبثق من ثقافة الأمة المسلمة وتراثها العظيم ؛ ليحقق لها آمالها التي تتطلع إليها ؛ بحيث يجمع في انطلاقته العلمية بين الأصالة والتجديد، فلا تمنعه الأصالة من الأخذ بالمفيد من الجديد، ولا يستهويه الجديد فيعرض عن أصله وخصوصيته، فلا بد أن تظل بين الأنظمة المختلفة عناصر مشتركة، ولكن لا بد أن يكون لكل منها خصوصيتها النابعة من وجدان الأمة وضمائر أبنائها .
والناظر يجد العديد من الدراسات التربوية التي تتحدث عن حق الإناث في التعليم، وتقابله بحق الذكور, وتخوض كثير من هذه الدراسات في صراع المساواة بين الجنسين في حق التعليم، فتقابل بين نسب الذكور المقيَّدين بالتعليم ونسب الإناث المقيَّدات بالتعليم, بهدف إثارة وجدان المجتمع تجاه الظلم الواقع على الإناث لقلة أعدادهن في التعليم في مقابل أعداد الذكور .
ولئن كانت هذه المسألة تحمل جزءاً من الحقيقة، إلا أن الواقع التربوي يشهد بأن الظلم الواقع على الإناث لا بد أن يكون جزء منه قد أصاب الذكور، كما أن الخير الذي يصيب الذكور لا بد أن جزءًا منه يصيب الإناث، فالمظالم الاجتماعية عادة تنحط على الجميع، إلا أنها تكون أثقل ما تكون على ضعفاء المجتمع من الإناث والمساكين والأطفال.
ومن هنا لا يصح أن ننطلق لإثبات حق الإناث في التعليم من جهة المساواة مع الذكور – وإن كان الأمر مأخوذاً في الاعتبار – وإنما ننطلق من بيان حقهن المشروع في مبدأ التعلم, وحاجة المجتمع إلى تعليم الإناث، وضرورة تربيتهن لصالح الأمة، إلى جانب ما يحققه التعليم من المقاصد الحسنة لعنصر الإناث بصورة خاصة، وما يمكن أن ينعكس من ذلك التعليم من فوائد غير مباشرة على رقي الأمة، ونهضتها الحضارية المنشودة.