تفقد العائلة المعاصرة في غالب المجتمعات الصناعية "أساسيات الوظيفة الأولية للقيام بدور التنشئة الاجتماعية المطلوبة"؛ حيث لا تجد الأم العاملة - في مثل هذه المجتمعات وما شابهها - الفرصة الزمنية الكافية للقيام بوظيفتها التربوية تجاه أولادها ، فتقصِّر لانشغالها بالعمل عن تولي رعايتهم بصورة متكاملة ، وتعجز لضعف جسدها المنهك من الحركة عن الرضاعة الطبيعية الضرورية ، أو تُقلِّل من عددها، وتضعف قواها النفسية والعاطفية المُستنزفة في الخارج عن تحمل معاناة التربية ، ومشاق تنشئة الصغار، وقد أشارت إحدى الدراسات الأجنبية إلى أن عدم اتباع إرشادات الطبيب في "استخدام الدواء يكثر لدى أطفال الأمهات العاملات عنه لدى أطفال ربات البيوت " ، مما أفقد كثيراً من الأمهات العاملات أهم أدوارهن الرئيسة في صناعة الطفل ، وتشكيل شخصيته ، وتكييف توجهاته ، خاصة بعد أن شاركتهن المؤسسات التربوية الحديثة بسلبياتها في نسف آخر معاقلهن التربوية ، مما أثار - في مجموعه- لدى الأمهات العاملات شعوراً عاماً بالخوف والقلق على أطفالهن، وإحساساً عميقاً بالذنب تجاه تقصيرهن ؛ لكونهن مسؤولات شرعاً وعرفاً عما يمكن أن يصيب أولادهن بسبب انشغالهن.
ولما كانت نتائج التربية اللاحقة مرتبطة - إلى حد كبير - بمدخلات التربية السابقة ، من جهتي النوع والكم : فقد جاءت نتائج اضطراب الوضع العائلي بسبب تشغيل الأمهات في غاية القسوة والعنف، حين نشأ الصغار وراهقوا الحلم في بيوت مفرَّغة من التربية ، لا يجد فيها الناشئ التفاعل الطبيعي لأعضاء الأسرة العضوية ، عندما لم يعد دور الأم الاجتماعي يختلف عن دور الأب إلا في نواحٍ شكلية يسيرة ؛ مما أسفر عن تشوُّه شديد في شخصية الناشئ ، وكدمات قاسية في صفحته النفسية ، واضطراب في سلوكه العام .
ولم تكن هذه المشاعر المؤلمة لتنشأ وتضمحل في نفس الناشئ دون أن تعبِّر عن نفسها في صور من الرفض الاجتماعي ، والعنف السلوكي الذي يتوجه به الناشئ نحـو المجتمع ومؤسساته ، في مسالك لا تتناهى من مظاهر الانحرافات الخلقية والنفسية القاسية ، مما دفع الرأي العام العالمي ، وبعض المنظمات الصحية والتربوية للمناداة من جديد بأهمية دور البيت التربوي ، وإعادة تذكير الأمهات بوظيفة الأمومة ، وأن التربية الأسرية أهم من العمل، حتى خرج في بعض البلاد الغربية من يصرح بأن التوسع في عمل المرأة مؤامرة على البشرية ؛ ولهذا أوصت منظمة الصحة العالمية – بعد أن أدركت خطورة الموقف التربوي – بتفريغ الأمهات العاملات ثلاث سنوات لكل طفل جديد ، ومع أن هذه الفترة ليست كافيــة للنمو الشامل السليم ؛ إذ إن الأمومة وظيفة كل الوقت وليست بعضه ؛ إلا أنها
– مع ذلك – تأتي في فترة مهمة للبناء النفسي والعاطفي للطفل في مرحلة المهد والطفولة المبكرة ، التي تحتاج – بالضرورة - إلى أم متفرغة للرعاية والحماية ، هذا إن أخذت مؤسسات العمل بهذه التوصية ، ومكَّنت الأمهات العاملات من هذا الحق التربوي .
وأما الاعتماد في تربية الأطفال على دور الحضانة والملاجئ التي يقترحها البعض ، كحل مفضَّل لتفريغ الأمهات للعمل ، فرغم أن هذا المقترح يفرِّغ الأم من دورها التربوي ، ويحصرها في الناحية البيولوجية ؛ فإن الثابت عالمياً إخفاق هذه الدور من الناحية التربوية ، وعجزها التام – رغم وفرة إمكاناتها – عن القيام للطفل بمقام الأم منه ، إلى جانب أنها حتى الآن – عند من يؤمن بها – لا تكاد تستوعب إلا العدد القليل ، وربما انعدمت خدماتها في بعض البلاد خاصة النامية منها ، إضافة إلى ارتفاع أسعار خدماتها بما تعجز عنه الأسرة العادية ؛ فإن الأسرة الأمريكية المعاصرة " تُنفق على هذه الخدمات ما يزيد عما تنفقه على البنود الرئيسة الأخرى من ميزانيتها، باستثناء المُنفق على الطعام والسكن " .
ورغم أن الأب يتحمَّل تجاه الأطفال الصغار جزءاً ضرورياً من المسؤولية التربوية : فإن الضابط الأسري في التصور الإسلامي يُحمِّل الأم الجزء الأكبر ، والمسؤولية التربوية الأعظم ؛ لفقر الصغار إليها من جهة ، ومن جهة أخرى لكونها مهيَّأة فطرياً أكثر من الرجل ، ومفرَّغة اجتماعياً – كما هو مفروض – لهذه المهمة التربوية الكبرى؛ فإن الرجل – في الغالب – لا يكاد ينفق أكثر من ربع ساعة يومياً في رعاية الصغار ، في حين تُنفق الأم جلَّ وقتها عليهم؛ ولهذا يأتي قرار إلحاق الطفل بدور الحضانة – غالباً – من جهة الأم وليس من جهة الأب ؛ لوجود هذا المعنى التربوي الخاص .
إن مقياس التقدم الحضاري بمعيار ارتفاع دخل الفرد ، أو حجم الصادرات ، أو درجة المشاركـــة السياســـية ، ونحوها من المعايير القاصرة : لا تكفي لأن تكون مقياساً صادقاً للرقي الحضاري في صورته الإسلامية الشاملة ، التي تستوعب الحياة بأسرها ، حتى ينضم إليها المعيار الأسري الأكبر، المتمثل في سلامة التنشئة الأسرية ، وصلاح الرعاية الوالدية ، فما قيمة التقدم الحضاري المادي ، حين يقوم على أنقاض الأسرة المسلمة ؟
ولعل في التجربة الماليزية ما يوضح المعنى المراد ؛ فقد حققت ماليزيا الحديثة تقدماً علمياً ومادياً ملموساً في السنوات الأخيرة ، شمل العديد من المجالات الاقتصادية الحيوية ، وبلغت مشاركـــة المرأة الماليزية في سوق العمل ( 37% ) من إجمالي القوى العاملة عام 1997م ، وقد سمح لها الدستور بأن تبلغ أعلى منصب في الدولة ، ومع ذلك فقد قام جزء من هذا التقدم والإنجاز، والمشاركة النسوية على حساب الأسرة ومقوِّماتها ؛ فقد سُجِّلت نسب كبيرة من المشكلات الأسرية ، والعنف العائلي ، والتعدِّي على المحارم ، وغيرها من الانحرافات السلوكية الكثيرة ، إلى جانب حجم العمالة الأجنبية الكبيرة التي تغزو البلاد ، وتزيد من حجم البطالة ، والسلوكيات غير المرغوب فيها، إضافة إلى تكريس النظام الماليزي لنموذج المرأة الغربية ، فمن الصعوبة بمكان إعطاء النموذج الماليزي المعاصر – رغم إنجازاته- تزكية كاملة، باعتباره النموذج الإسلامي المقياس .