تميل الفتيات بطبعهن إلى الميدان الطبي؛ لما فيه من الخدمة الإنسانية والاجتماعية، التي تلتصق بصورة مباشرة بمهامهن الطبيعية في الخدمة الأسرية، والرعاية الوالدية، خاصة وأن قدراتهن الفطرية على مواجهة الآلام والإصابات في غاية التفوق، مما يُؤهلهن لهذا الميدان بصورة كبيرة.
ورغم تفوق هذه الطبيعة الفطرية في كيان الإناث فإن أخبارهن في ميدان التاريخ الطبي تكاد تكون مجهولة، خاصة إذا ذُكر المتفوقون ؛ بل إن وصفهن بالطب كان في غاية الندرة، حتى في زمن النبي ، فقد غلب عليهن وصف التمريض، في الوقت الذي كان يُوصف فيه الرجل – في ذلك الزمن – بالطب إذا كان ماهراً به، عارفاً بأصوله؛ ولهذا كان كلُّ العاملات في المستشفيات الإسلامية القديمة ما بين قابلة، أو ممرضة، أو خادمة، دون أن يكون بينهن طبيبات.
ومما يشير إلى هذا المعنى أيضاً قول السيدة عائشة رضي الله عنها في تولِّيها خدمة النبي في مرض موته حيث قالت : "ولم أمرِّض أحداً قبله..."، تقول هذا رغم أنها شاركت في خدمة الجرحى في غزوة أحد، وكان لها معرفة جيدة بمسائـل من طبِّ زمانها: مما يدل على أن المسألة التاريخية لا تتعدى في الجملة حد التمريض، الذي يُحسنه أكثر النساء بالفطرة دون كبير تعليم ؛ فإن التمريض عمل إنساني قديم، يقوم به الرجال والنساء على حدٍّ سواء، دون الحاجة إلى كثير تعليم وتدريب؛ ومما يؤكِّد ذلك أن أول تعليم رسمي للتمريض كان في القرن السابع عشر الميلادي، وأول مدرسة تمريض للنساء في ألمانيا قامت في عام 1836م.
وأما المرأة الطبيبة فقد تأخَّر وجودها في أمريكا حتى عام 1844م، وفي بريطانيا حتى عام 1859م، فقد اقتصرت خبرات النساء الطبية – في السابق – على المعرفة المتداولة من علوم الطب الشعبي، وأبلغ ما كانت تصل إليه المرأة – في السابق - من العلوم الطبية : حين تنتسب إلى أسرة طبية، تتلقَّى فيها المعرفة العلمية عن طريق محارمها بصورة مباشرة ؛ ولهذا الوضع الاجتماعي: أصبح من النادر الحديث عن المرأة الطبيبة في التاريخ الإنساني.
والعجيب أن هذا الوصف لا يزال قائماً عليهن حتى في هذا العصر، الذي تساوت فيه فرص التعليم الطبي بين الجنسين، فما زالت مهنة التمريض هي الغالبة على مهاراتهن الطبية، وما زال ميدان التفوق الطبي – في الغالب – بعيداً عن قدراتهن الشخصية ؛ فعلى الرغم من وجود نساء طبيبات في جميع المجتمعات المعاصرة، بنسب متباينة ، إلا أن وصف المرأة بالتفوق الطبي يكاد يكون معدوماً، فعند الحديث عن العبقرية لا تُذكر الطبيبة، وعند الحديث عن المتفوقين في الطِّب من أطباء القرن العشرين، لم يُذكر سوى الطبيبة الإيطالية ماريا مونتيسوري، وليس ذلك باعتبارها متفوقة في الميدان الطبي، وإنما باعتبارها متفوقة في الميدان التربوي؛ ولهذا أجاز العلماء - في علاج المرأة المريضة - تقديم الأمهر من الأطباء حتى وإن كان رجلاً، خاصة وأن الناس اليوم لا يثقون – بقدر كافٍ – في المرأة الطبيبة، فلم يغنِ النساء وجود طبيبات في هذا العصر عن الميل نحو الرجل الطبيــب ،والرضا عن أدائـــه الطبي بصــورة أكبر مـن أداء الطبيبات؛ لذا يقلُّ المراجعون من المرضى على النساء الطبيبات، ويضعف بالتالي رضاهن عن أدائهن مقابلة بأقرانهن من الأطباء الذكور، مما قلَّل من درجة استقلاليتهن المهنية، وأخَّرهنَّ عن المواقع المرموقة في الهيئة الطبية، وربما كان هذا هو السبب في تدني مهنة الطب في روسيا، حين غلب عليها النساء.
ولعل هذا الإخفاق النسائي العام – إلى جانب محدودية قدراتهن الشخصية في هذا الميدان – جاء من جهة إعزاز المرأة المسلمة، والترفُّع بها عن هذه المهنة الصعبة في أدائها، والمرهقة في طبيعة مزاولتها ، والتي تتعارض مع شــرف القرار في المنزل، وحاجات الأسرة ؛ فإن غالب الناس – لاسيما في المجتمعات الغنية – يرون أن مهنة الممرضة – بصورة خاصة – وضيعة وشاقة لا تليق بالمرأة الشريفة، ولهذا غلب على المُلتحقات بها في هذا العصر وصف العوز الاقتصادي، والحاجة إلى الكسب، وربما رضين بهذا التخصص لانخفاض معدلاتهن الدراسية، وليس للرغبة في امتهان التمريض ، وذلك على الأغلب من نتائج الدراسات العلمية، التي اعتنت بهذه الفئات من الفتيات ؛ ولهذا كثيراً ما يتسرَّبن بعد التخرج، رغم قلَّة أعدادهن، مع أن بعض خطط التنمية تنصُّ على: "إشراك النساء في الوظائف المناسبة مثل : التدريس والطب".
ولقد كانت مزاولة المرأة المسلمة للتمريض الاجتماعي العام في زمن رسول الله مرتبطة بفترات الطوارئ الاجتماعية والسياسية، التي يتساوى فيها – عــادة – الناس والمهن أمام الظــروف القاهــرة، ولا يُفهم من هذا التقليل من أهمية دور الممرضة في الفريق الصحي – حتى وإن لم ترقَ مهمتها لمقام شرف الطبيب – فإن (80%) تقريباً من الخدمات الطبية اليوم تقدمها الممرضة، ومازال الأطباء في كل عصر في حاجة مُلِحَّة لفريق الممرضين والممرضات لنجاح المهمة الطبية، وتمام أدائها.