ما يتصل بصحة المرأة التناسلية، وما يتعلق من الحمل والولادة: تعد من أمهات الصنائع الطبية، فرغم اهتمام الأطباء المسلمين بهذا الجانب بحثاً ومعرفة وتأليفاً، فقد كانت المسؤولية الميدانية لممارسة هذا الفن تنحصر في النساء القابلات، كما هو واقع غالب المجتمعات الإنسانية في السابق، فهي حرفة من حرف النساء، المعروفة والمرتبطة بهن ، وهي ميدان إبداعهنَّ وتفوُّقهنَّ، حيث كنَّ يتلقين مهارات هذا الفن عن طريق الخبرة المجتمعية، أو عن طريق المدارس النسائية الخاصة، التي كانت معروفة عند المسلمين وعند غيرهم منذ القديم وفي الأزمنة المتأخرة إلى عهد قريب.
وأما تخصص الطبيب المسلم في ميدان طب النساء والولادة ، وتوليه – بالتالي – مهمة عمل القابلة فلم يكن معروفاً في التاريخ الإسلامي؛ فقد كفت النساء بعضهن بعضاً في هذا الميدان الخاص، فإن وجود القابلة كان ضرورياً في المستشفى الإسلامي القديم؛ لتولي مهام ولادة النساء، واستقبال المولود، وإنما كانت حدود تدخُّل الطبيب في هذا الفن تقتصر على الحالات المستعصية، التي تُفقد فيها المرأة الحكيمة، أو تعجز عنها؛ ولهذا لا يصح – عند بعض الفقهاء- دخول الرجل ميدان طب النساء والولادة، وتولية مهمة القبالة، ولا يحق له تعلُّم فنونه الطبية إذا وُجد في النساء ما يكفي من جهة العدد والمهارة للقيام بهذه المهمات النسوية الخاصة ، وإن كان ولابد فيقتصر دور الطبيب على صحة الحامل والجنين، وتكون مهمة التوليد قصْراً على القابلات، إلا في حالات الضرورة.
وأما في هذا العصر، ورغم الانفتاح العلمي في الميدان الطبي، والتوسُّع في التحاق الفتيات بكليات الطب : فإن تخصُّص الفتيات في ميـدان الطب النسـائي يكاد يكون نادراً - رغم التحسُّن اليسير الذي طرأ مؤخَّراً في هذا الوقت - فقد غلب عليه الرجال، وعمَّت المسلمين - من جراء ذلك - البلوى التي لم تكن معروفة عند سلفهم، مما دفع الغيورين إلى الدعوة والمناداة من خلال المجالس العلمية، والمجمَّعات الفقهية بضرورة انتداب جمع من الفتيات المسلمات لتعلم هذا الفن، وتمكينهن من العمل في هذا الميدان؛ حتى يكفين بذلك أخواتهن من كشف العورات ، والحرج الخلقي، إلا أن هذه الدعوة – مع صدقها وخلُوصها – تبقى بلا معنى حقيقي إذا لم يتهيأ للفتاة المناخ الإسلامي الملائم لتعلُّمها هذا الفن، ومن ثمَّ الميدان الاجتماعي الطاهر لتطبيقها له، وممارستها إياه؛ فإن الشريعة السمحة لا تنهى عن أمر ما ثم تأمر به في الوقت نفسه، فتمنع الفتاة من الاختلاط المشين وتحذرها منه، ثم تأمرها – في الوقت نفسه – أن تتعلم الطب لسد حاجات أخواتها من النساء في جو مختلط لا يليق بالفتاة المسلمة ، ثـُمَّ تزجُّ بها – بعد التخرُّج – لممارسة عملها في ميدان مختلط أيضاً، بل حتى لو قيل إنها ترتكب هذا الخطأ لمصلحة أخواتها، فتنوب عنهن في ارتكاب المحظور؛ لتكفيهن هذا الحرج: فإن الإيثار في القُرَب مكروه، فكيف بالاستئثار بالمحظور؟ ومن المعلوم شرعاً أن الغاية الحميدة لا بد لها من الوسيلة المشروعة؛ "إذ الوسيلة في الإسلام من جنس الغاية، والوسيلة إلى الحلال حلال، والغاية في الفعل الإسلامي لا تبرر إخراج الوسيلة عن النسقية الإسلامية".