إن المحافظة على التراث الإسلامي العريق، ونقله بأمانة من جيل إلى جيل ليس حكراً على الرجال – وإن كانوا في الغالب هم المهتمين به – فقد أجمع أهل الأثر على أن: النساء فيه والرجال سواء، وإنما المراعاة في ذلك الحفظ والإتقان والصلاح ؛ فليست الذكورة شرطاً لصحة التقليد في العلم، بل يجوز تقليد المرأة في الجملة، وما ذُكر في استحباب مخالفتهن لا يصح منه شيء ؛ فقد كانت السيدة عائشة - رضي الله عنها – تحمل من علوم الدين ما قد يبلغ الشَّطر، فلا يجد أكابر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غضاضة في سؤالها عن علومها ومعارفها، حتى قال أبو موسى الأشعري – رضي الله عنه – : " ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة عنه إلا وجدنا عندها منه علماً " ، وقد كان لها كلمة الفصل في جمع من المسائل العلمية، وتوجيه فريد في طريقة الاستنباط والتعليم، حتى أصبحت محلَّ تنافس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واهتمامهم .
وأما تفرُّد بعض النساء بعلوم وأخبار لا تكاد توجد عند غيرهن، وإسهامهن في نقلها بأمانة: فهذا كثير شائع، كتفرُّد أم عطية – رضي الله عنها – في نقل خبر كيفية غسل الميت، وتفرد الفريعة بنت مالك بن سنان – رضي الله عنها – في نقل خبر العدة، وتفرد إحدى نساء الأنصار في نقل خبر سقوط طواف الوداع عن الحائض، وكذلك تفرُّد بعض التابعيات وإسهاماتهن الجليلة في نقل الأخبار، كتفرُّد عمرة بنت عبد الرحمن – رحمها الله – زمن عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – بنقل مرويات عائشة – رضي الله عنها، حتى قال القاسم بن محمد لابن شهاب – رحمهم الله – : " يا غلام أراك تحرص على طلب العلم، أفلا أدلُّك على وعائه ؟ قلت : بلى، قال : عليك بعمرة، فإنها كانت في حجر عائشة، قال : فأتيتها فوجدتها بحراً لا يُنزف " .
وكذلك في الأزمنة المتلاحقة من تاريخ الأمة المجيد، فما زالت كثير من النساء يسهمن في خدمة تراث الأمة حتى قال الطبراني صاحب المعاجم – رحمه الله – عن خدمة إحداهن لمرويات أبي قتادة – رضي الله عنه – : " لم يرو هذه الأحاديث عن أبي قتادة إلا ولده، ولا سمعناها إلا من عبدة، وكانت امرأة عاقلة فصيحة متدينة " ، وكتب أبو القاسم عبد الواحد بن محمد بن جعفر بخط يده: " حدثتنا أم سلمة فاطمة بنت عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني, إملاءً من حفظها, في منزل أبي إسحاق المزكي, في سنة اثنتين وستين وثلاثمائة " ، وقد بلغ التفوق بإحداهن في خدمة العلوم الدينية أن وصفت بمسنـدة أهل العراق، حتى إن العلامة البارع ابن الجوزي – رحمه الله – قرأ عليها وأخذ عنها.
لقد أدرك السلف أن التربية وسيلة المجتمع التي بها يحافظ على وجوده واستمراره بدمج الأجيال اللاحقة إلى الأجيال السابقة في إطار قيمه وأهدافه السائدة ، فأعطوا للنساء عبر الأجيال فرصة الخدمة المشكورة في نقل التراث، ضمن مجتمع إسلامي راقٍ، شاعت فيه العلوم والمعارف بين جميع الأفراد – ذكوراً وإناثاً – حتى إن بعض مجالس العلم يحضرها عشرات الألوف من الأنفس، وقد قال المستشرق كوستاف لوبون عن جهود النساء المسـلمات في نقل التراث الإسلامي : " إن النساء المسلمات قد أخرجن في الدهر الغابر من المشهورات العالمات بقدر ما تُخرج مدارس الإناث في الغرب اليوم " .
ومن هنا فلا بد أن تُتاح فرص التعلم للفتيات المسلمات المعاصرات للإسهام الجاد في خدمة التراث الإسلامي, تشبهاً بنساء السلف الفضليات، وتشرُّفاً بخدمة هذا الدين .