يقع ضابط الحاجة لتشغيل النساء بين ضابطي الضروريات والتحسينيات ؛ بحيث يحصل للأمة بصورة عامة وللمرأة بصورة خاصة حرج في عدم مشاركتها في برامج وخطط البلاد التنموية، وأمَّا ضابط الضرورة الملحة لمشاركة المرأة الاقتصادية فلا يقوم له شيء؛ فإن الضرورات التي يحصل بنقصها الأذى : تبيح المحظورات ، وأما ضابط التحسينيات فيأتي متأخراً عن الحاجة والضرورة ، فلا يقوم مقامهما ؛ بل هو أقرب إلى الإلغاء منه إلى الإثبات عند تعارضه مع مصلحة دينية أو دنيوية راجحة ، خاصة كانت أو عامة .
إن هذا التصور الاقتصادي الضابط لمشاركة المرأة المسلمة في ميادين التنمية العامة لم يكن حياً – كما يظهر – في حسِّ الأمة المسلمة المعاصرة ، وهي تدفع بفتياتها ونسائها نحو العمل المهني ، مُنساقة بالنموذج الغربي المهيمن ، والتطور الصناعي المعاصر ، والوفرة المالية، التي غيَّرت – في مجموعها – العديد من المفاهيم والتصورات الاجتماعية ، في ظل طبيعة متغيرات العصر ، التي استطاعت – بسرعة تطورها وشمولها – أن تبدِّل قناعات الرأي العام الاجتماعي تجاه عمل المرأة ، من كونه حاجة تقدَّر بقدرها ، إلى أن أصبح توجهاً اجتماعياً عاماً ، تتأهل فيه المرأة للكسب ، كما يتأهل فيه الرجل .
وقد كان لمتغير التعليم بأسلوبه الحديث ، الذي يربط بين المعرفة العلمية وسوق العمل : الدور الأكبر في فتح ميادين المهن بأنواعها المختلفة أمام الفتيات الراغبات ؛ بحيث يزداد إقبالهن على الاشتغال بالمهن بصورة متلازمة مع زيادة تعليمهن ، فلم يعد تعليم الفتاة للمعرفة فحسب ، كما كان الهدف منه في أول الأمر ؛ بل أصبح كتعليم الفتى ، يعدُّ كلاً منهما لسوق العمل كقاعدة عامة ، لا تفرِّق بين المهام المختلفة المنوطة بكل منهما، مما أثار جدلاً جديداً يطعن في استحقاق الإناث للنفقة والمهر، مع ضرورة مشاركتهن في النفقة الأسرية، بعد أن تأهلن كالذكور للكسب، كما أثار – في الجانب الآخر – مشاعر الإناث تجاه الفروق في الإرث، بعد أن تساوى الجنسان في نوع الواجبات والحقوق، فلن يبقى بعد ذلك للثوابت الشرعية موقع من الاعتقاد، فضلاً عن أن يكون لها موقع في الحياة العملية.
إن هذه المساواة الاقتصادية الشاذة بين الجنسين – رغم معارضتها للعقل والنقل – لا تخدم المرأة العاملة بقدر ما تخدم الرجل، حين تُزيح عنه مسؤولية الزوجة والأولاد، فلا يبقى إلا لنفسه، ثم تبقى بعد ذلك الزوجة وأولادها – في ظل هذه المساواة الاقتصادية الجائرة – يكابدون عناء الكسب والنفقة، حين ارتبطت بيولوجياً طبيعة المرأة بالنسل، وكان دور الرجل – في كل ذلك – مجرَّد الاستمتاع بلا مقابل، فلا يبقى أمام الرجل – الذي عُصم من الأسر البيولوجي – سوى القيد الشرعي، الذي يُلزمه بالنفقة الواجبة على أهله وولده بالإيمان أو السلطان، كما أمر الله تعالى : ...، وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام: " ... ابدأ بمن تعول، قال: ومن أعول يا رسول الله؟ قال: امرأتك تقول: أطعمني وإلا فارقني، خادمك يقول: أطعمني واستعملني، ولدك يقول: إلى من تتركني؟ " .
ومن هنا فلا بد أن تبقى موازين الشرع في توزيع المهام الاقتصادية قائمة بين الذكور والإناث، ولا بد – لأجل ذلك – من إعادة النظر في أمر تشغيل النساء في ضوء ضابط الحاجة، الذي يحكم حدود مشاركتهن التنموية في الميادين الاقتصادية العامة، ومدى الحاجة المتبادلة بينهن وبين العمل، مع تجنُّب سلبيات مشاركتهن المهنية على زيادة حجم البطالة في الرجال .