إن الضابط الشرعي في التصور الإسلامي لا يعترض على مبدأ تخصُّص الفتيات الصحي – تطبيباً كان أو تمريضاً – وإنما الاعتراض هنا على واقع المجتمع الطبي المعاصر، من جهة طريقة إعداد الفتيات للمهنة، ومن جهة أسلوب ممارستهن لها؛ فقد غلب على واقع الحياة الطبية المعاصرة - بكل تفصيلاتها- جو الاختلاط بين الجنسين، بما يشمل زمن الطلب والتعليم، وفترة التدريب والتأهيل، ثم الواقع العملي عند ممارسة المهنة؛ بحيث يحتاج الشخص – ذكراً كان أو أنثى، سواء كان مُعالجاً أو مُتعالجاً – في جوِّ المصحَّات الحديثة: إلى أن يتجرد عن كثير من الالتزامات الخلقية، والضوابط الشرعية، فيما يتعلق بالتجاوزات السلوكية غير الضرورية : كالخلوة الممنوعة، والاحتكاك الجسدي، ومسِّ العورات، وكشف الأجساد، بحيث يحتاج الناجح في هذا الميدان – قبل أن يكون حاذقاً بمهنته – أن يكون قادراً على التجرد الكامل عن هويته الجنسية ، على الأقل في زمن أداء وظيفته المهنية ؛ بحيث تنعدم في حسِّه – ولو بصورة مؤقتة – فوارق الجنس، وأسباب التجاذب، وحياء الأبدان، بحيث يتَّحد الجميع – ذكوراً وإناثاً – في سلوك جنسي واحد، ويعجز – في مثل هذه الظروف المهنية – الرجل الطبيب مهما كان حازماً – فضلاً عن الفتاة – أن ينفك عن جلِّ هذه الخبرات المشينة أو بعضها في ظروف النظام الصحي الحديث، الذي لا يعترف – في الغالب - بالفروق الجنسية، والآداب الخلقية.
وقد ثبت واقعياً أن الميدان الطبي في تاريخه الحديث كان نقطة التحول في انحراف الفتاة المسلمة، وانجراف كثير من الفتيات خارج آداب العادات والتقاليد الإسلامية، وما زال حتى اليوم وسيلة كثير من دعاة الاختلاط للانفلات الخلقي، تحت ذريعة الحاجة إلى العنصر النسائي، وتصبح القضية في غاية الخطورة إذا عُلم أن غالب الفتيــات الملتحقات في هــذه الأيام بمهنــة التمريض – بصورة خاصــة – من العازبــات دون سن العشرين.
إن حاجة المجتمع إلى تخصص الفتيات الطبي – رغم أهميته – تتهاوى أمام الضابط الشرعي الذي يحرِّم كل صور التفلُّت الخلقي، فإن علم الطب من مستحبات الشريعة، ولا يعدو حكمه – بالنسبة للقادرين عليه من الرجال والنساء – فرض الكفاية في أشد الحالات، ومن المعلوم أن ترك المحرم أولى من فعل المندوب، فلا يصح أن تُهدر في سبيله فروض العين التي كلَّف الله بها عباده؛ فإن الفرض مقدَّم على النفل، وفرض العين مقدَّم على فرض الكفاية، والواجب لا يترك إلا لواجب مثله، فإذا تعارضا : قُدِّم الآكد منهما ؛ بحيث يُراعى في ذلك دفع أعظم المفسدتين، وارتكاب أخف الضررين، ويكون الاعتناء بدفع المفسدة أكبر من الاعتناء بجلب المصلحة، ولهذا ما ألزم النساء بهذا الفرض الكفائي إلا ليكفي بعضهن بعضاً، ويستر بعضهن بعضاً، وليس ليكن مطيَّة اجتماعية تتَّجر بها الشركات الطبية، فتهدر في سبيل الكسب المادي كرامتهن بأعين وأيدي الرجال المرضى؛ حين يتندَّرون ويستمتعون بهنَّ، وربما وصل الأمر إلى حدِّ التحرش الجنسي؛ ولهذا كثيراً ما تستغل بعض المؤسسات الطبية جمال الفتاة العاملة، وحسن تأنقها : لجذب الزبائن، وتوجِّه العاملات إلى التخفف من الحجاب، ولاسيما النقاب، مما دفع بعض الجهات الصحية المسؤولة، في إحدى الدول العربية المحافظة إلى السعي في ضبط هذا الأمر، بتوجيه العاملات نحو اللباس المنضبط، الساتر للعورة، مع تجنُّب الأصباغ الملونة، والعطور النفاذة، ولهذا فقد نصَّ العلماء – في القديم والحديث – على أن قيام الممرضات على الرجال لا يصح إلا من ذات محرم، أو من امرأة كبيرة لا فتنة منها، أو من غيرهما في غير خلوة ودون مساس، ضمن حدود الضرورة الشرعية التي تُقدر بقدرها، وتزول بزوالها، وما نصَّ الفقهاء على ذلك إلا لدرء الفتنة، وإغلاق باب الفساد، الذي يأتي في كثير من الأحيان من جهة الاحتكاك بين الجنسين.