39ـ الأمومة في طبيعة الفتاة الفطرية

إن مما يعكِّر الحياة الزوجية ويذهب سكَنَها : رفض الزوجة مبدأ تعدد الزوجات، فإذا ما قرر الزوج إقامة بيت جديد لأسرة جديدة، ضمن نظام التعدد الذي أباحه الإسلام : كان الصخب، والنفرة، وربما الطلاق . حتى يبقى الزوج حائراً بين الإبقاء على بيته القديم مع التنازل عن حاجته لمبدأ التعدد، أو إقامة بيت جديد على أنقاض البيت الأول .

إن حلَّ هذه المشكلة عند الفتاة المسلمة يرجع إلى قضيَّتين مهمتين : إحداهما اعتقادية : حيث الإجماع على جواز نكاح الحرِّ لأربع حرائر، والتسري بمن شاء من الإماء ممن هن في ملكه، في حين لا يحق للمرأة أن تتزوج بأكثر من واحد في الزمن الواحد، فلا يصح إيمان الفتاة إلا بموافقة الإجماع، حتى وإن كان في ذلك شدة عليها، وأما القضية الأخرى فترجع إلى استيعاب الحكمة من خلال تشريع هذا المبدأ الإسلامي العظيم .

إن البشرية منذ فجر التاريخ وقبل الإسلام ما زالت تمارس تعدد الزوجات بصورة من الصور، ولم يأت على البشرية زمان اكتفى فيه جميع الرجال بالمرأة الواحدة، فاليهود يعدِّدون بلا حدود، فقد كان لسليمان عليه السلام ألف امرأة، وكان لداود عليه السلام مائة منهن، وبعض الفئات من البشرية تمارس التعدد عن طريق إشاعة النساء بين الرجال . فلم يكن مبدأ التعدد من صنع الإسلام بل هو مبدأ قديم بقدم وجود الإنسان . وإنما جاء الإسلام بضبطه، وتوجيهه وفق منهجه القويم المعتدل .

وفي العصر الحديث فإن تعدد النساء للرجل الواحد ينتشر بين الغربيين - الذين يزعمون تحريمه - أكثرمن انتشاره بين المسلمين، فما زالت بعض الطوائف النصرانية في الولايات المتحدة تعتقد جوازه، وتمارسه سراً، أما التعددية من خلال الأخدان، والخلائل فهذا أمر شائع عندهم، يقول الفيلسوف الألماني شوبنهور - وهو من المتحمسين لمبدأ تعدد الزوجات عند المسلمين - : " أين لنا بمن يقتصر حقيقة على زوجة واحدة، بل لا ننكر أننا في بعض أيامنا أو في معظمها كلُّنا أو جلُّنا نتخذ كثيراً من النساء " .

وفي الوقت الذي يعترف فيه كثير من المفكرين الغربيين بالحكمة الصادقة من تشريع هذا المبدأ في الإسلام؛ لحل مشكلة الانحرافات الخلقية، وأنه أفضل الأنظمة، وأسعدها حالاً للمرأة، وأنه " حسنة حقيقية لنوع النساء بأسره "، وأنه حتى الآن لم يقم دليل على فساد هذا النظام، أو وقوفه في طريق التقدم الإنساني، وأنه أفضل حل لمشكلة كثرة النساء، خاصة بعد الحروب، حيث أقرَّت به حكومة ألمانيا عام 1948م، واستفتت الأزهر الشريف عن طبيعة نظامه، وكيفية تطبيقه . رغم هذا الإقرار والوضوح : ينطلق جمعٌ من المنتسبين إلى الإسلام والعروبة ليصفوا هذا المبدأ الإسلامي بأنه نوع من الخيانة الزوجية، أو احتكار لجمع من النساء كاحتكار الخيول، حتى إن بعضهم يُفتي بتحريمه، لضرره الشنيع، وأنه تشريع عنصري، اتخذه الرجال ضد النساء، حتى قال أحدهم عنه بأنه : " حيلة شرعية لقضاء شهوة بهيمية، وهو علاقة تدل على فساد الأخلاق، واختلال الحواس، وشره في طلب اللذائذ "، وربما تحدث بعضهم يشكِّك في مشروعيته، حيث تقول إحداهن : " إن التعدد مشكوك في إباحته على أقل تقدير " .

وقد دعم هذه الآراء المنحرفة وأيَّدها قوة القانون الوضعي  وصولة السلطان، حيث نصَّت غالب التشريعات العربية والعالمية على المنع منه، ووضعت العقوبات الصارمة للمخالفين، فلا يُباح إلا في بعض الدول الإسلامية بصورة فردية، وفي أضيق الحدود، وبعد تحقُّق شروط متعددة، غالباً ما يعجز عنها الرجل الراغب في النكاح . ومن أجاز من هذه القوانين للزوج مطلق التعدد : أباح للزوجة الأولى أيضاً مطلق حرية الفسخ إذا لم تكن موافقة على زواجه من أخرى، فقلَّ - بناء على ذلك - عدد المعددين في البلاد الإسلامية، حتى أوشك أن يزول المبدأ بالكلية، فقد دلَّت الإحصائيات عام 1964م على أنه انخفض إلى 2% فقط، وربما انخفضت نسبتهم الآن إلى أقل من هذا بعد أن كانت في عام 1950م تصل إلى (5.5%) .

لقد أسهم رفض مبدأ التعدد مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة في ارتفاع عدد الفتيات العازبات الصالحات للنكاح، حتى في الدول التي لا تمنعه قانونياً، فقد بلغت نسبة النساء العوانس في المملكة العربية السعودية أكثر من مليون ونصف المليون عانساً حسب إحصائيات وزارة التخطيط لعام 1420هـ، في الوقت الذي لم تعرف الجاهلية العربية قديماً الفتاة العزباء بكراً كانت أو ثيباً ما دامت في سن الزواج .

والعجيب أنه في الوقت الذي يُحرِّم فيه القانون الوضعي تعدد الزوجات : يُبيح للفتاة التصرف في بضْعها مع من شاءت من الرجال ما دامت فوق الثامنة عشرة، ويمنعها من التصرف في مالها قبل الحادية والعشرين من عمرها . مما يدل على الهدف من منع تعدد الزوجات : رغبة في إشاعة الفواحش، والقبائح الأخلاقية، حيث أخذ سواد الناس يظهرون الرضا بالزوجة الواحدة، يخفِّفون وطأة ذلك عليهم بممارسة الزنا في ظل حماية القانون .

إن على الفتاة المسلمة أن تعلم شيئاً من الإفراط الجنسي السوي، المتمثل في الزواج بأكثر من امرأة : لا يُعدُّ في علم النفس سلوكاً مَرَضياُ ما دام ضمن المباح، فإن الرجل " بفطرته ينزع إلى تعدد الزوجات، وأنه لا شيء يستطيع أن يُقنعه بالزوجة الواحدة إلا أقسى العقوبات، ودرجة كافية من الفقر، والعمل الشاق، ومراقبة زوجته له مراقبة دائمة "، فإنه بفطرته غير مخلص في علاقته العاطفية بالمرأة - حتى وإن كان محباً لها - إنما يضبطه الدين والأخلاق والعادات الاجتماعية، وأما المرأة فإنها مخلصة بالفطرة؛ إذ لا تحتاج - من أجل بقاء النوع، وتكثير الجنس البشري - إلى أكثر من لقاح واحد في الوقت الواحد؛ لأن المبيض لايُفرز عادة إلا بيضة واحدة فقط، والرحم لا يتسع لأكثرمن ماء واحد، فإذا حصل الحمل تعطَّل عن مهمة تكثير النوع، وتحول نشاطه إلى رعاية الجنين، في حين يمكن للرجل بصورة مستمرة أن يُلقِّح أكثر من امرأة في الوقت الواحد في سبيل خدمة النوع دون أن يتعطَّل، فالمرأة بطبيعتها وما يعتريها من أمور النساء : لا تخدم من خلال تنويع الذكور جانب التكاثر، في حين يخدم الرجل بالتنويع هذا الجانب الحيوي في طبيعة التكاثر عند الإنسان، فهي بطبيعتها ذات زوج واحد، والرجل بطبيعته متعدد الزوجات .

وقد أكَّدت الدراسات النفسية عن طبيعة نشاط المرأة الجنسي - الذي يحاول بعضهم إغفاله - أنها بفطرتها تميل إلى تحديد علاقتها الجنسية برجل واحد، في حين يميل الرجال إلى التعدد، والاستكثار من النساء، فقد أشارت دراسة ميدانية عالمية شملت أكثرمن (554) مجتمعاً : أن غالب هذه المجتمعات تُقرُّ بمبدأ تعدد الزوجات للرجل الواحد، في حين تبنَّى (1%) فقط فكرة تعدد الأزواج للمرأة الواحدة، ولعل هذا ما يُفسِّر تعدد النساء في الجنة للرجل الواحد، واختصاص المرأة فيها برجل واحد، فدلَّ على أنها الفطرة التي جُبلت عليها الأنثى، وانطبعت عليها نفسها حتى في مقام الحظوة عند الله تعالى في جنات النعيم، حيث لا يُمنع أحدٌ - من الذكور أوالإناث - أمنية رجاها .

وعلى الفتاة المسلمة أن تستوعب هذا الفهم، وتوطِّن نفسها على قبول هذا التشريع اعتقاداً، وتصبر عليه عملاً إن حلَّ بها، فإنه عمل الرسول r، وأصحابه في القرون المفضلة، التي نالت فيها المرأة عموماً والفتاة خصوصاً أسمى ما يمكن أن تناله من التقدير والرعاية والإحسان في أي حقبة زمنية أخرى ضمن تاريخ الإنسان السابق وحتى اللاحق .