لقد استفاضت السنة المطهرة بالتوجيهات النبوية المباركة والحاثة على التناسل وكثرة الولد، فمنها قول الرسول r: (( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ))، وقال أيضاً (( امرأة ولود أحب إلى الله من امرأة حسناء لا تلد، إني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة )). وقال عليه الصلاة والسلام في الولد: (( الولد الصالح ريحان من رياحين الجنة )) ، ورتب الأجر على كثرة الولد، وإن لم يعيشوا، فقال عليه الصلاة والسلام: (( ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم )) ، وكذلك من رباهم وسهر عليهم حتى كبروا وكانوا صالحين، فإن أجره لا شك أكبر وأعظم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : " يا سعيد تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء "، وما ذلك إلا لطلب الولد والذرية، فقد كان لقيس بن عاصم رضي الله عنه اثنان وثلاثون ذكراً . وما ورد في السنة من الترخيص في العزل مع الكراهة فإنه لا ينبغي أن يؤخذ من هذا الترخيص جواز استعمال حبوب منع الحمل ووسائله لعامة الناس، فإن هذا ينافي مقصود الشارع الحكيم من حفظ النسل واستمراره .
كما يجب أن يفهم أن دعوى تحديد النسل بين المسلمين دعوة تبشيرية نصرانية تهدف إلى تقليص أعداد المسلمين، علماً بأن تحديد النسل بالنسبة لأهل الكنيسة يعد جريمة، فهذه إيطاليا تضع قانوناً صارماً ضد من يقوم بالدعاية لتحديد النسل، أو يقوم بعملية إسقاط للجنين بصورة متعمدة، وذلك لعلمهم ويقينهم " أن الثروة البشرية هي أكبر مصدر للاقتصاد … فالإنسان هو صاحب إمكانية العمل والتفكير والاختراع وتركيب الأغذية وإيجاد الحلول " . ومن المعروف أن القوانين الغربية تحرم الإجهاض .
أما تنظيم الحمل بهدف إعطاء المولود الأول حقه من الرعاية والرضاعة فقد أجاز بعض العلماء استعمال الدواء لمنع وقوع الحمل، وإن كان الأحوط عند البعض ترك ذلك .
ويجب أن يعرف أن كثرة الحمل والولادة لا تضر بالمرأة الطبيعية؛ بل تنفعها، فإن نموها الكامل وبلوغ الاتزان والكمال العقلي عندها لا يحصل إلا بعد الحمل لمرة واحدة على الأقل، وقد نقل أن امرأة أنجبت (( 34 )) مولوداً توأمين فأكثر، ولم يذكر أنها تضررت من جراء ذلك .
والشريعة جاءت بإباحة تعدد الزوجات لأسباب عديدة، منها طلب الذرية والاستكثار منها، كما أنها حرمت ومنعت كل ما يعوق تحقيق هذا المقصد، فمما حرمته الرهبانية والتبتل، وإتيان المرأة في دبرها، وغير ذلك من المعوقات .
ثم إن الحديث عن أهمية الاتصال الجنسي، وأوجه الاستمتاع بين الزوجين، وأهمية ذلك وضرورته للحياة الزوجية فإن ذلك برمَّته لا يعدو أن يكون وسيلة إلى غاية كبرى، وهدف أسمى وهو : اقتناص الولد، وبقاء النوع، فما الشهوة في ذاتها : إلا محركاً وباعثاً عليه . وأي علاقة جنسية لا تهدف إلى الإنجاب، ولا تقصد إليه فهي علاقة ناقصة غير طبيعية، كالذي يأخذ أجر عمل دون القيام بواجبه المناط به، فيحصل الزوجان على اللذة الجنسية دون الإنجاب، وخدمة النوع .
وقد أدرك السلف هذا الفهم الفطري الصحيح من مشروعية النكاح، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : " لولا الولد لم أتزوج، حصير في البيت خير من امرأة لا تلد "، ولهذا رُوي أنه طلَّق إحدى زوجاته لما علم بعُقمها؛ لحرصه الشديد على الإنجاب، حتى إنه كان يقول : " إني لأطأ النساء ومالي إليهن حاجة : رجاء أن يخرج الله من ظهري من يكاثر به محمد r الأمم يوم القيامة "، وأخبر عنه ولده عبدالله رضي الله عنهما مبيناً حرص أبيه الشديد على النسل فقال : " كان أبي لا يتزوج النساء لشهوة إلا طلب الولد "؛ فأدرك رضي الله عنه أن الإنجاب :هو أسمى مقاصد مشروعية النكاح، فحرص على الاستكثار منه . وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم، يستكثرون من الولد، فقد كان لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : أربعة عشر ذكراً، ومن الإناث سبع عشرة أنثى، وكان لقيس بن عاصم رضي الله عنه اثنان وثلاثون ذكراً .
إن هذا الفهم للغرض من النكاح في التصور الإسلامي : بدأ يخفُّ عند المعاصرين من الجنسين، حيث يميلون إلى تحديد النسل، والإقلال منه، كما دلَّ على ذلك كثير من الدراسات العلمية الحديثة، خاصة عند الفئات المتعلمة، والفئات ذات الدخل المرتفع، حيث يُشكِّل التعليم النسائي - بالدرجة الأولى - أعظم وسيلة لتحديد النسل، وتأخير الإنجاب، ويأتي مبدأ تأخيرسن الزواج ليحد من عدد مرات إنجاب المرأة، فيكون سبباً أيضاً في التقليل من النسل، ويمثل دخل الأسرة المرتفع : عذرأ مقبولاً عند بعضهم للحد من الذُّرية : بحجة رفع مستوى الرعاية التربوية للنشء، في حين تستكثر الأسر الفقيرة من التناسل والتكاثر، ويغلب على نسائها سرعة الإنجاب .
إن قضية التناسل عند المرأة أكبر بكثير من مجرد استمتاع جنسي؛ فإن الأنثى بطبيعتها الفطرية الفسيولوجية : " قد ربطت بين المتعة الجنسية والوظيفة التناسلية، بحيث إن كل فصل يُقام بينهما لا بد من أن يكون على حساب الأمومة، وكرامة الحياة الزوجية نفسها "، فوظيفتها الإنسانية الأولى : تكثير النوع الإنساني، بحيث تكون أفضل أيام حياتها حين تحيا لمصلحة النوع البشري، وشرُّ أيامها حين ينقطع عنها الولد، والفتاة المسلمة مع كونها تمارس خيانة إنسانية إن هي رغبت عن الولد؛ فإنها تتشبَّه بالمرأة العاقر، التي نهى رسول الله r عن الزواج منها، كما أنها بهذا المسلك ترفض مبدأ الفطرة التي خُلقت عليها في كونها حرثاً ومزرعة للولد، وتفوِّت على نفسها أجر الحمل، والولادة، وما رتَّب عليهما الشارع الحكيم من عظيم الأجر والمثوبة، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: (( إن للمرأة في حملها إلى وضعها إلى فصالها من الأجر : كالمتشحِّط في سبيل الله، فإن هلكت فيما بين ذلك فلها أجر شهيد )) ، فجعلها في مرتبة وأجر الشهيد، الذي يتخبَّط ويتمرَّغ في دمه؛ حين تخدم النوع بتكثير المسلمين .
إن مما ينبغي أن تعرفه الفتاة : أن مجرد الاستمتاع الجنسي بين الزوجين ليس كافياً لنجاح الحياة الزوجية وازدهارها؛ فإن الحكمة من وجود داعية الشهوة وهذا الاستمتاع، والمحبة بين الزوجين : إنما هو لبقاء النسل، وعدم انقطاعه؛ بحيث لوحُرمت الأسرة الإنجاب : كانت أقرب للانهيار والتفكك منها إلى السعادة والاستقرار، في حين تكون الأسرة المنجبة : أكثر تماسكاً وترابطاً، وأكثر استقراراً، فالعقم يُشكِّل صدمة نفسية عميقة عند الزوجين، خاصة عند الفتاة المتزوجة، فهي أقل تكيفاً، وأكثر إضطراباً من الرجل في مواجهة مشكلة قصور القدرة الطبيعية على الإنجاب؛ لأن الإنجاب بالنسبة للأنثى : غاية فطرية، لا بد من تحققها، وخوض تجربتها الفريدة، فالأمومة عندها حقيقة مركزية في حياتها الجنسية، والرجل في حياتها : لا يعدو أن يكون وسيلتها الوحيدة إلى إشباع هذه الخلَّة الملحة، وغاية حاجته الفطرية : الاتصال الجنسي؛ ولهذا تعاني هي من عدم الإنجاب أكثرمن معاناته وأشد .
كما أن نمو الفتاة الطبيعي الشامل لا يتم كماله إلا بحصول الحمل والولادة لمرة واحدة على الأقل؛ فإن نمو ملكاتها، وتهذيب مواهبها، واتزانها العام، واستقرارها النفسي، وبلوغها حدَّ الإشباع الجنسي في حياتها الزوجية : كل ذلك لا يتم لها بكماله على التمام إلا من خلال خوض تجربة الحمل والولادة، ومعاناة الرعاية والتربية، حتى إن تفوقها في نظم الشعر كلَّما كان ألصق بهذه التجارب الأنثوية : كان أكثر إبداعاً وإتقاناً، بل إن إلحاحها الشديد على رشاقة جسدها، وتفوق قوامها - كما هي طبيعة النساء - ينخفض عندها بصورة ملحوظة حال الحمل، رغم ما يسببه من تغيير كبير في شكلها ووزن جسمها، بل وحتى معاناة الحمل، وآلام الولادة التي تُعد من أشد أنواع الآلام التي يصادفها الإنسان في حياته : فإنها بالنسبة للمرأة لا تعدو أن تكون من أسعد مشاعرها، وأحبِّها إليها؛ ولهذا يُلاحظ ندرة وقوع حوادث انتحار بين النساء الحوامل، مما يدل على مدى العمق الفطري لقضية النسل في نفس الأنثى، وأهميته الحيوية في حياتها من جهة سلامة نموها، واستقرارها النفسي .
إن قضية النسل تعطي الفتاة أهمية إنسانية فائقة، حتى تكون مهمة حفظ النوع مُوكلة إليها، فلا يستطيع أن يقوم مقامها في هذه المهمة الإنسانية الفريدة أحد من الرجال، مهما بلغ من المنزلة والقدرات؛ إذ إن الفطرة - بإذن الله تعالى - خصَّت المرأة دون الرجل بأجهزة تكثيرالنوع الإنساني، التي لا يمكن تصوُّر إمكانية الاستغناء عنها في عملية التكاثر، فلو قُدِّر فَرَضاً إمكانية الاستغناء عن دور الرجل في عملية التكاثر من خلال تخزين عدد كبير من الحيوانات المنوية، وحفظها بطريقة علمية لفترات زمنية طويلة : فأَنَّى للبشرية أن تستغني عن الرحم الذي لا يتعدد للمرأة الواحدة، وعن بويضاتها المحدودة العدد ؟ .
ولعل مما يُجلِّي هذه المسألة، ويوضح مركزية دور الأنثى في عملية التكاثر : " قضية الاستنساخ " التي ظهرت مؤخراً باعتبارها اكتشافاً علمياً مذهلاً في هذا المجال، فإنها - مع ذلك - لا تعدو أن تكون تقدماً علمياً في اتجاه الاستغناء عن دور الذكر في عملية التكاثر، مع الاعتراف الكامل بأصالة دور الأنثى فيها، وعدم إمكانية تصوُّر الاستغناء عنها بحال من الأحوال، حتى إن أحد الأطباء المتخصصين في هذا المجال - بعد نجاح عملية استنساخ أول كائن حي - صرَّح بأن النساء لم يعدن في حاجة إلى الرجال للإنجاب .
وهذا يوضح بجلاء أهمية دورالأنثى في هذا المجال الإنساني الحيوي المهم؛ ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بضرورة، حفظ الإناث من مواقع الهلكة، فأسقطت عنهن الجهاد القتالي، إلا في حال الضرورة . وحتى المرأة الكافرة : فإنها معصومة الدم بالأنوثة، لا تُقتل في الحرب إلا حين تعدو بالسلاح فتقاتل، أو يكون في قتلها مصلحة شرعية، بل وحتى المرأة المرتدة فإنها لا تقتل عند بعض العلماء، وليس كل هذا إلا من أجل خدمة النوع الإنساني، وحفظ النسل؛ لأنها عملية تتوقف بالدرجة الأولى على وفرة العنصر النسائي أكثر من توقفها على وفرة الذكور .
ومن هنا فإن هذا الواقع الفطري يكشف للفتاة أهمية دورها الحيوي في عملية التناسل، ويضعها أمام المسؤولية الربانية التي تفرض عليها خدمة النوع، وتكثير المسلمين، ولا سيما في هذا العصرالذي لم يعد للمسلمين فيه من القوى سوى القوة العددية، التي يمكنهم من خلالها فرض شيء من إرادتهم، وحفظ كيانهم أمام قوى التسلط الاستعمارية العالمية، فإن الواقع المعاصر يشهد بأن ارتفاع عدد السكان - في حد ذاته - قوة، ولا سيما حين يرتبط بالجانب الاقتصادي، الذي أصبح من عناصرالتأثيروالتمكين في هذا العصر، فقد شهدت التجارب الاقتصادية القائمة أن التصنيع يتبع العمالة حيثما كانت، وليس العكس، ولا سيما إذا كانت رخيصة؛ حيث تسهم في خفض تكاليف الإنتاج، فهذه الاستثمارات الصناعية العملاقة، بعد انفتاح السوق الدولية : تتدفَّق بقوة على الدول التي تتوافر فيها العمالة، حتى وإن لم تكن دولاً متقدمة، مثل المكسيك والصين والبرازيل وماليزيا وتايلند ونحوها ، وهذا يدل على الأهمية الكبرى للوفرة السكانية، في توجيه القوى الاقتصادية، وقد أدرك هذا المغزى الحيوي القائد الفرنسي الشهير نابليون حين سُئل : " أيُّ النساء أعظم بنظرك؟ فقال : أكثرهن أولاداً " .
وبناءاً على ماتقدم فإنه لا يجوز منع النسل، أو تحديده، فإن الخوف من الفقر، أو الخشية من كثرة الأولاد، أو الرهبة من تنامي عدد السكان : ليست من الأعذار المبيحة لذلك، فلا يصح - بناء على ذلك - اتخاذ أسباب المنع من الحمل لهدف قطعه أو تحديده أو إسقاطه إلا في حال الضرورة الملجئة، ولقد كان المجتمع المسلم في السابق شديداً في مثل هذه القضايا الإسلامية الكبرى، وقد كان من حرصه أخذ المواثيق على الطبيب المسلم ألا يدل الرجال ولا النساء على أساليب قطع النسل، أو إسقاط الأجنة .