يحصل انتهاك عرض الفتاة بالكلام الفاحش من خلال الشتائم والقذف، ونحوهما من قبيح القول، وهذا النوع من الإجرام يُعد من أوسع أبواب انتهاك العرض وأخطرها، إذ إن كلمة واحدة في هذا الشأن، يمكن أن تُزعزع أركان المجتمع، وتُقلق أهله زمناً طويلاً، كما حصل في حادثة الإفك؛ ولهذا كان تعامل نظام الإسلام مع المتورطين في مثل هذه الحالات صارماً وعنيفاً للحد منها، حتى وإن كان مع بنت لم تبلغ الحُلُم.
ومع طبيعة التطور في الحياة الاجتماعية المعاصرة، وظهور جهاز الهاتف كوسيلة اتصال فائقة، تحمل في طبيعتها التقنية قدرة النفاذ عبر الحواجز والأحجبة، والجدران والستور، لتخترق حرمات البيوت المصونة، وتصل إلى المُخَدَّرات في بواطن الحُجر في غير ريبة أو استهجان أسري؛ فإن هذه الطبيعة المُخْترقة النَّفَّاذة لهذا الجهاز جاءت متوافقة مع طبيعة المجرم المُخْتلسة الخائنة، حيث يصل من خلال الكلام والاستمتاع عبر الجهاز إلى مبتغاه الجنسي من الزنا المجازي، الذي يصل به أحياناً إلى حد اللذة الكبرى بالإنزال، وهذا المسلك الشائن لا يُستبعد من الفاسق؛ فإن الفتاة قد تُلاطف الرجل بالكلام العذب: فيُمني بين فخذيه دون أن يمسَّها؛ ولهذا أخذ على النساء: ألا يُحدِّثن الرجال من غير المحارم إلا بإذن الأزواج؛ فإنهن وإن تكلَّفن الخشونة في الكلام فإن طبع اللين فيهن يغلب.
إن استخدام جهاز الهاتف في أغراض الانتهاك العرضي أمر واقع في الحياة العربية المعاصرة، حتى إن القانون الوضعي في بعض الدول العربية - لكثرة الحوادث - أدخل سوء استخدامه ضمن حدِّ القذف العلني الذي يُؤاخذ به فاعله، ولئن كانت الشريعة أو القانون الوضعي يحمي عرض الفتاة من الانتهاك بالعقوبات الرادعة: فمن ذا الذي يحمي مشاعر الفتاة من الاختلال، وعواطفها من الإثارة؟ إن المعضلة لا تكمن فيما يصدر عن المجرم إلى مسامع الفتاة من عبارات الفحش والخنا، وإنما المشكلة الكبرى تكمن في الاختلال الشخصي، والاضطراب السلوكي الذي يمكن أن تخلفه مثل هذه المكالمات الهاتفية المثيرة على مشاعر الفتاة وعواطفها؛ فإن باب السماع عند الأنثى: أوسع، وأعظم أبواب الإثارة الجنسية في طبيعتها؛ إذ للكلمة المسموعة أثرها الفسيولوجي الخاص على نشاط الفتاة الانفعالي، الذي قد يصل بها أحياناً إلى حدِّ النشوة الجنسية، إن هي اسْترسلت فمكَّنت الفاجر من أذنها؛ يقول أبو عثمان الجاحظ عن هذه الطبيعة الأنثوية الخطيرة: "ولو أن أقبح الناس وجهاً، وأنتنهم ريحاً، وأظهرهم فقراً، وأسْقطَهم نفساً، وأوضعَهم حَسَباً، قال لامرأة قد تمكَّن من كلامها، ومكَّنته من سَمْعها: والله يا مولاتي وسيدتي، لقد أسهرت ليلي، وأرَّقْت عيني، وشغلْتني عن مُهمِّ أمري، فما أعقل أهلاً، ولا مالاً، ولا ولداً: لَنَقَضَ طِباعَها، ولفسَخَ عَقْدَها، ولو كانت أبرع الخلق جمالاً، وأكملهم كمالاً، وأملحهم ملحاً، فإن تهيَّأ مع ذلك، من هذا المُتعشِّق أن تدمع عينُهُ: احتاجت هذه المرأة أن يكون معها وَرَعُ أم الدرداء، ومعاذة العدوية، ورابعة القيسيَّة، والشجاء الخارجية"، فإذا كان هذا التأثر العميق يمكن أن يحصل للفتاة البارعة من مثل هذا القبيح الساقط في شكله وحاله، فكيف بمن خفي عليها حاله، واستتر خلف الحواجز والحجب، ولم يبدُ لها من أمره إلا حُسن صوته، وخداع كلامه عبر خطوط الهاتف الدقيقة؟ فلا شك أن هذا قد يكون أبلغ في تاثيره عليها من الذي قد بدا لها نقص هيئته.
إن مثل هذا الوصف لخطورة هذا الجهاز -خاصة بعد ظهور الهاتف الجوال، وانتشاره بصورة واسعة بين الفتيان والفتيات- لا ينبغي أن يُستنكر، فإن حصول الاستمتاع الجنسي عبر الهاتف عند بعض الفتيات الساقطات: أمر ثابت ميدانياً، وقد كانت المرأة الماجنة في السابق تتعرض للشعراء حتى يشببوا بها، ويمدحوها، فيعجبها ذلك، وترتاح له، وتستمتع به، فليس بغريب أن يحصل شيء من هذا الاستمتاع عبر الهاتف، ثم إن وقوع بعضهن في علاقات حبٍّ عن طريقه: أمر معلوم معروف، وكيف يستنكر هذا والعشق قد يقع بمجرَّد الإخبار، والتلذذ قد يحصل بالمراسلة، وكل ذلك دون نظر أو سماع، ثم إن انتهاء كثير من العلاقات الهاتفية بين الجنسين بوقوع الفاحشة هو أيضاً أمر واقع وقائم.
ولعل أخطر ما تتوجب به عبقرية تقنية الاتصالات الحديثة: الربط بين الهاتف والكاميرا في جهاز واحد، حيث تم ذلك في الهاتف النقال، كما تم أيضاً عبر الشبكات العنكبوتية العالمية، إضافة إلى إمكانية الربط التقني بين الهاتف الجوال والشبكة العنكبوتية، "فليست أكثر من لحظة خيانة يُدار فيها مفتاح الهاتف المتنقل ليصبح الشخص الغافل بصورته وانفعالاته: مادة ثقافية للمستهلكين، فلا يستطيع أن يردَّ عن نفسه المتطفلين، ولا يستطيع أيضاً أن يمحو ما تناثر من شخصه عبر الأثير، وللمتأمل أن يتخيل حين تكون الفريسة من المخدرات في البيوت، المحجوبات بالجلابيب والخُمُر، مما يُعطي القضية حجمها الفعلي، وخطرها الحقيقي"، وهذه النقلة المتطورة في ميدان الاتصالات من شأنها إحداث هزة في المجتمع، تتغير معها المفاهيم الاجتماعية والثقافية، ويحتاج معها الناس إلى تعريف جديد لمفهوم الخصوصية الشخصية، حين لم يعد للشخص -أياً كان- أن ينفرد بشيء من خصوصياته دون تدخل الآخرين وفضولهم، حين مكَّنتهم هذه التقنية الخطيرة من إشباع رغباتهم على حساب الآخرين، حتى إنه لم يعد غريباً في بعض الأوساط الاجتماعية المحافظة أن يحضر بعض النساء الحفلات النسائية وهن محجبات ، ويقوم على مداخل قاعات الحفلات من يفتش الداخلات بحثاً عن أجهزة الاتصال المزودة بالكاميرات.
إن المشكلة لا تكمن في مجرد التطور التقني لوسائل الاتصال الهاتفية، والوصول إلى هذه التقنية العالية، وإنما تكمن في توفيرها بأسعار زهيدة في أيدي المستهلكين من جميع فئات المجتمع وطبقاته، بحيث تكثر نسبة العابثين المستخدمين لها، ممن تنقصهم التربية الصالحة، والأخلاق الفاضلة، مما قد يهدد المجتمع في أخلاقه وآدابه، ولاسيما إذا عُرف أن النساء في بلد مثل المملكة العربية السعودية يمثلن حوالي 40% من سوق أجهزة الهواتف النقالة، وأن هناك اختلافاً -يكاد يكون عالمياً- في أسلوب استخدام الهاتف بين الرجال والنساء، ففي الوقت الذي يستخدمه الرجل -في الغالب- لقضاء حاجاته، تستخدمه المرأة كوسيلة للترفيه، مما يجعلها أكثر عرضة للانتهاك عبر هذه الوسيلة سواء كان ذلك برضاها، أو رغماً عنها.
إن وسيلة الفتاة الوحيدة لرد هذا النوع من الانتهاك عن نفسها حين لا تستطيع أن تستغني عن هذه الوسائل هو الالتزام بالحجاب الشرعي خارج المنزل لتحفظ صورتها، مع عدم الاستجابة بالكلية للطرف الآخر عبر الهاتف، حتى ولو بالشتيمة، فإن الفاسق يستمتع بذلك، بل عليها أن تقطع المكالمات الهاتفية من هذا النوع بصورة مباشرة، فإن الصوت كالوجه يتأثر بالانفعالات المختلفة عند المتكلم وإن كان مُحتجباً، فتدرك الفتاة الواعية لأول وهلة من نبرات الصوت: ماذا يُريد المتكلم، فتقف من المكالمة الموقف المناسب، ولا تتهاون في ذلك حتى وإن ادَّعى رغبته في خطبتها، فإن طريق الخطبة معلوم، ولو أوكل ردُّ المكالمات المنزلية للرجال، ولكبار السن من النساء، مع الحدِّ من استخدام الفتيات للهاتف الجوال ولاسيما ذي الكاميرا لكان هو الأولى والأكمل لدرء الفساد، مع الإبقاء على مبدأ مشروعية التحدث من وراء حجاب، بقدر الحاجة بين الرجال والنساء إذا كان ذلك في غير ريبة أو خيانة.