2- مبادئ التربية الجنسية للفتاة المسلمة
يحتم المنطلق الشرعي والواقعي على المجتمع: أن يتناول بالاهتمام -عبر مؤسساته المختلفة- وضع صياغة تربوية مشروعة لمنهج التربية الجنسية، يُحقق للفتاة سلامتها الخلقية والصحية، ويساعدها على ضبط اتزانها العاطفي والسلوكي، بحيث ينطلق هذا المنهج من ثلاثة مبادئ رئيسة على النحو الآتي:
المبدأ الأول: أنوثة الفتاة موضع حرمة أخلاقية: حيث تتربى الفتاة من أول أمرها على تعظيم شأن العورة، وقبيح إبدائها، وأنها في الحرمة أعظم من عورة الرجل وأغلظ، ويُعظَّم ذلك في نفسها؛ ليُسبغ على ذلك الموضع منها طابع التحريم، الذي يُميَّز تلك الأعضاء المكنونة عن غيرها بخصوصية ليست لشيء آخر من أعضاء بدنها، حتى يصبح مجرَّد انكشاف العورة ولو في حال الخلوة ممقوتاً في حسَّها، فضلاً عن العبث الجنسي، أو التفريط الخلقي، وفي الحديث يقول الرسول r عن ضرورة حفظ هذا الموقع من الجنسين: (( من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه: أضمن له الجنة ))، وشهوة الأنثى الجنسية لا تقل عن شهوة الذكر، بل ربما قد تفوقها أحياناً، فيأتي من جهتها في حال الإثارة من السلوكيات الخاطئة والمنحرفة ما يشينها، ويُوقعها تحت طائلة العقوبة؛ ولهذا لما سمع عمر رضي الله عنه ذات ليلة حنين امرأة إلى زوجها الذي خرج إلى الجهاد، وشوقها الشديد إليه: سأل عنها، وأرسل إليها امرأة تكون عندها حتى يرجع إليها زوجها، وذلك حرصاً منه على سلامتها الخلقية، وسلامة المجتمع الذي يترأسه.
ومنهج التربية الجنسية -في هذا الجانب- يتخذ من: أحكام الطهارة، وأبواب ستر العورة، وآداب الاستئذان مدخلاً مشروعاً لتأصيل هذا المبدأ التربوي،واتخاذه ركناً أساساً في صحة وسلامة الفتاة الجنسية.
المبدأ الثاني: أنوثة الفتاة موضع فتنة اجتماعية ؛ لكونهن رأس الشهوات، وموضع أعظم الملذات؛ حيث تتصدر الفتنة بهن أعظم أنواع بلايا الرجال، وأشد مخاطر أول الزمان وآخره، وليس ذلك لقوة فيهن، ولكن لضعف طباع الرجال من جهتهن؛ حيث قهرهم الله بالحاجة إلى النساء، حتى جعل الميل إليهن كالميل إلى الطعام والشراب؛ حيث بثَّ فيهن عنصر الأنوثة الذي يلعب في كيان الذكر دور الشرارة في الوقود، حتى يسْري لهب الشهوة في بدنه كحريق النار، فينصبغ العالم من حوله بطابع الشهوة، حتى تستحوذ على زمام سلوكه، فلا يبقى له رأي ولا فهم، ولا يلتفت إلى شيء حتى يقضي وطره بصورة من الصور، فالمثيرات الجنسية تعمل فيهم عمل المُشهيات للأطعمة، تدفعهم دفعاً نحو الجنس بإلحاح؛ ولهذا كثيراً ما يقع الشباب في عادة الاستمناء القبيحة، بصورة واسعة وكبيرة؛ يتخففون بها من شدة الإثارة الجنسية.
إن من الحقائق التي لابد أن تعرفها الفتاة وتتيقن منها: أن المرأة الجميلة، ولاسيما الشابة الفاتنة من النساء: تحدث اضطراباً في كيان الرجل، مهما كان مقامه، إنما يختلف الرجال في حجم ضبطهم لأنفسهم، ودرجة تحمل قلوبهم لهذا الاضطراب، وقلَّ أن ينجو الرجل بسلام من الفتنة بالحسناء حين يمكِّن نظره منها، بل ربما كان مجرد سماعه لصوتها، أو معرفته بصفات حسنها دون رؤيتها: كافياً لتعلُّق أصحاب القلوب الضعيفة والفارغة بها، وربما وصل الحال بأحدهم إلى حدِّ العشق المُهْلك، فليس أحدٌ يموت بعشق شيء أكثر من موت الرجال في عشق النساء؛ ولهذا قدَّم الله تعالى ذكرهن على رأس الشهوات بقدر تقدمهن في قلوب الرجال، فقال I : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14]، ومن هنا يُلْحظ عمق الصلة بين الجمال والجنس بصورة يصعب إنكارها أو إغفالها، حيث يتوقف عنف الرغبة الجنسية واندفاعها على درجة الجمال ووفرته.
ولما كان المسلك السلبي في التحفز والانتظار والهدوء هو طابع الأنثى في سلوكها الجنسي: فإنها مقابل ذلك في غاية الإيجابية تجاه إبراز مفاتنها، ومواقع الجمال منها، وصناعة التأنُّق والتزين بكل الوسائل الممكنة؛ وذلك بهدف رواجها عند الرجل، فهو مقصودها الأول والأسمى بحسن التزيُّن والتصنع، فهي لا تتزين لتعزز إرادة نفسها كما يفعل الرجل، وإنما لتعزز إرادة الرجل فيها، فحجم الزينة الكافية عندها: ما يزكيها في عين الرجل، ويروِّج لمكانها عنده، ومن هنا تأتي الفتنة الاجتماعية حينما تنطلق إحداهن - بدافع رواجها عند الرجال- إلى التعبير بوسائل غير لفظية عن جمالها ومكامن مفاتنها، أو عن إعجابها وميل نفسها؛ حيث تقوم الحركات الجسمية، ونبرة الصوت، وطريقة الوقوف، ونوع المشْية، ونظرة العين، ورائحة الطيب: مقام كثير من الكلام، ففي الوقت الذي قد تعجز العبارات عن حمله من المعاني المراد إيصالها: تحمله الوسائل غير اللفظية، وتُوصله بصورة قد تكون أبلغ من العبارة وأقوى، وقد أشارت دراسة أجنبية أنه في حالة "توصيل رسالة ما: تشكِّل الكلمات التي نستخدمها نسبة 7%، ونبرة الصوت 38%، ووضعية الجسم 55%… وفيه يظهر بجلاء مقدار الوسائل غير اللفظية في عملية التعبير والتواصل"، وصدق الله العظيم إذ يقول مؤدِّباً وموجِّهاً نساء النبي r خاصة، ونساء المؤمنين عامة في مواقفهن مع الجنس الآخر: {….. إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا* وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى …} [الأحزاب:32-33]، إلى أن قال جلَّ وعلا: {…. وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ …} [الأحزاب:53]، وإلى أن قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:59]، وقال جلَّ شأنه في موضع آخر: {…. وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ …} [النــور:31].
ولعل ما يغفل عنه كثير من النساء، أو يتهاونَّ فيه: إمكانية التواصل بين الجنسين بواسطة الرائحة الزكية؛ حيث تقوم الرائحة من خلال حاسة الشم بأدوار مهمة في حياتي الإنسان والحيوان الجنسيتين، فهي بجانب أنها وسيلة كثير من الحيوانات للتعرف على أفراد أجناسها، فإنها إضافة إلى ذلك وسيلتها للتجاذب بين ذكورها وإناثها للتناسل والتكاثر، وهي في عالم الإنسان: لغة صامتة لا تقل عن الكلام وغيره من أدوات البيان، فالإنسان كما يتواصل باللفظ فإنه يتواصل أيضاً بالشم، ويعبِّر بالرائحة كما يعبِّر بالكلام، ويستطيع أن يصل بالرائحة إلى أغوار لا يقوى غيرها عليها، ولا يمكن الوصول إليها بغيرها من الحواس؛ ولهذا ارتبطت لغة الحب بين العشاق والمتحابين بحاسة الشم ارتباطاً في غاية القوة، وقد استغل تجار العطور في الترويج لبضائعهم هذه الخاصية الفطرية، وهذا ما يُلحظ من الدعاية على علب العطور وأسمائها، مما يشير بوضوح إلى العلاقة الخاصة بين الجنسين، ولهذا تقول السيدة حفصة رضي الله عنها : "إنما الطيب للفراش"، بمعنى أنه مجال للاستمتاع والإثارة بين الزوجين، فلا يصلح خارج ذلك.
وبسبب هذه الخاصية العجيبة لدور حاسة الشم في عملية التواصل بين الجنسين: نبه النبي r النساء، وحذرهن من الخروج بين الرجال الأجانب بالطيب، ولو كان ذلك لشهود الصلاة في المسجد، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة ))، وقال في حق المتهاونات في ذلك: (( أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية))، وهذا قول شديد لا يليق بالفتاة المسلمة أن تخالف توجيه الرسول r ، فتقع في مثل هذا الوصف الشنيع.
إن هذه الغريزة المُسْتحكمة في طبيعة سلوك الذكور الجنسي لا بد أن تكون موضع اهتمام الفتاة المسلمة ورعايتها، فإن حدود حريتها السلوكية كعنصر فتنة: تنتهي عند نظر أو سمع أو علم الأجانب من الرجال، فلا يصحُّ أن يصدر عنها أمامهم أو بمسمع منهم -ولو بصورة عفوية- ما يكون سبباً في إثارتهم، وتحريك غرائزهم، من خلال: لباسها الفاضح، أو حركتها المقصودة، أو صوتها العذب، أو رائحتها العطرة، أو خلْوتها بغير محرم، بحيث تستفرغ جهدها في حمايتهم -كإخوة لها في الله- من كل مثير يضرهم ويُخرجهم عن سكون طبيعتهم، بحيث تتكلف ذلك تكلفاً، حتى ولو أدى ذلك إلى أن تحجب شخصها، وخبر وصْفها عنهم بالكلية، فلا يصل إليهم من فتنتها شيء، كحال نساء النبي r رضي الله عنهن، فإن هذا المسلك مستساغ شرعاً، إذا لم يفوِّت على الفتاة مصلحة أكبر، حيث تُعوَّد منذ الصبا على النفور من الرجال الأجانب، والهروب منهم؛ فإنهن بالطبيعة قُبيل البلوغ: ينفرن من الذكور، ويملن إلى أترابهن من الإناث.
وفي هذا الجانب يجد منهج التربية الجنسية أوفر مادته الشرعية للدخول إلى هذا المبدأ التربوي المهم من خلال: أحكام الحدود الشرعية، وآداب اللباس والزينة، إلى جانب القصص القرآني والنبوي المتضمن لمثل هذه الموضوعات في العلاقة بين الجنسين.
المبدأ الثالث: أنوثة الفتاة موضع متعة زوجية: بحيث لا تستنكف أن تكون موضع استمتاع للزوج في بدنها وبضْعها، ومكاناً لقضاء وطره، ومنْبت ولده، فإن الفتاة الحرة في الأصل ممنوعة ومحفوظة من كل الرجال مطلقاً، إلا من أجنبي عنها بنكاح صحيح؛ إذ الحكمة تقتضي ذلك، بحيث يبلغ التجاذب بينهما مداه الأقصى، حتى يستمر للبشرية أسباب بقائها ضمن منظومة التزاوج التي بُنِيَ على أساسها مبدأ تكاثر الأحياء وتناسلها، فهذا الموضع من الإناث، الذي هو منبت الولد إنما خُلق للأزواج، كما قال تعالى مستنكراً قبح عمل قوم لوط u : {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ* وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:156-166]، "فأعلم الله U الرجال أن ذلك الموضع خُلق منهن للرجال، فعليها بذله في كل وقت يدعوها الزوج، فإن منعته فهي ظالمة، وفي حرج عظيم"، ومن هنا تدرك الفتاة الحكمة من جعلها موضع استمتاع للزوج، ومدى الخدمة الإنسانية التي تقدمها للبشرية باستمرار النوع، وتكثير سواد المسلمين، كما أنها أيضاً - وللوهلة الأولى- تلْحظ من نفسها، أو من زوجها بوادر الانحراف الجنسي عندما يروم أحدهما أو كلاهما مُتْعته بهدر الماء في غير ذلك الموضع منها؛ فإن الفتاة الساذجة قد تعيش دهراً مع زوج شاذ، فلا تتنبَّه لذلك منه حتى يفتضح بين الناس، أو يطلبها للوصال من غير ذلك الموضع، فتأبى عليه -كما هو واجب المؤمنة- ولا تُمكِّنه من نيل قبيح مُراده.
ويمكن لمنهج التربية الجنسية أن يدخل إلى هذا المبدأ الأصيل من خلال أحكام الأسرة في الإسلام، وما يتعلق بها من أحكام النكاح، والعشرة، والفراق، والعدة، ونحوها من شؤون وقضايا الأسرة المتعلقة بهذا الجانب من العلاقات الزوجية الخاصة.
ومن خلال هذه المبادئ الثلاثة يمكن للمنهج التربوي أن ينطلق في تربية الفتاة من الناحية الجنسية عبر نظام الإسلام، وشرائعه المختلفة التي كلف الله تعالى بها الناس، بعيداً عن أسلوب التفحُّش، والانحراف الخلقي الذي تتعاطاه المصادر الجنسية المشبوهة تحت ستار الثقافة الجنسية.