9ـ عقبة الأنوثة في طريق المرأة نحو الولايات السياسية العامة

تأتي مرتبة الإمامة الكبرى بعد مرتبة النبوة مباشرة، لما فيها من الأجر العظيم لمن أخذها بحقها، وعمل فيها بالشرع، فكما أن النبوة هي الكمال البشري المطلق في أتمِّ وأعلى صوره، فإن الإمامة الكبرى هي الكمال البشري الممكن في أتمِّ وأقصى درجاته. ولما كانت الأنوثة تحمل بالضرورة قدراً من النقص: حُصرت النبوة في فئة الرجال، وحُصرت الإمامة في الكُمَّل من الذكور، بحيث يتولاها أفضل الرجال، وأعلمهم، وأتقاهم. فإن عُدم: فالأمثل من رجال الأمة دون نسائها، وعلى هذا إجماع المسلمين في القديم والحديث. فإذا تولى من هو دون ذلك مع وجود الأفضل لَحِق الأمة نوع من المذمة، وهبوط الشأن، وكانت إمْرته كإمْرة الصبيان التي أمر الرسول r بالاستعاذة منها، وأما إذا تولاها النساء فإن الأمة حينئذٍ تكون أبعد شيء عن الفلاح، وأقرب ما تكون من الهلاك؛ بحيث يكون باطن الأرض خيراً لها من ظاهرها. يقول العز بن عبد السلام رحمه الله: "ولا يليق بالرجال الكاملة أديانهم وعقولهم أن تحكم عليهم النساء لنقصان عقولهن وأديانهن، وفي ذلك كسر لنخوة الرجال مع غلبة المفاسد فيما يحكم به النساء على الرجال".

وأما تولي المرأة شيئاً من الولايات العامة فيما دون الولاية العظمى كالوزارة والقضاء وإدارة الأمصار ونحوها من الولايات: فإن المتفق عليه عند العلماء قصرها أيضاً على فضلاء الرجال؛ لأن هذه الولايات من جهة الكمال تلحق بمقام الخليفة؛ إذ لا يقوم عليها إلا أكمل الرجال بعد الإمام ، فلئن كان أعوانه دونه في الفضل والعلم والرأي: فإنهم – بالضرورة– أكمل الناس بعده، وهم مع ذلك نوَّابه وخُلفاؤه على الإمامة من بعده. ثم إن الله عز وجل لم يجعل للمرأة– مهما كانت – سلطة تقوم بها على زوجها في البيت، فكيف تصح سلطتها عليه وعلى غيره  في الحياة العامة ؟ كما أنه لا يصح منها أن تكون أحد الحكمين اللذين يدخلان بين المرأة وزوجها عند الشقاق، ولا يصح منها أن تنفرد بالشهادة دون أن تعضدها امرأة أخرى، حتى في القضايا التي لا يطلع عليها غير النساء كما هو عند بعض الفقهاء، في الوقت الذي يقبل فيه بعضهم شهادة الأعمى. فكيف يصح منها ما هو فوق ذلك من مهام السياسة والإدارة والقضاء ؟.

وأما ما يُنقل عن بعض  العلماء من الأحناف والظاهرية، وبعض الباحثين المتأخرين: من جواز تولية المرأة العاقلة شيئاً من الولايات العامة والقضاء: فإن هذا القول لا يعدو حدَّ الشذوذ الذي لا تنفك عنه كثير من مسائل الفقه، فمسائل الإجماع في الفقه الإسلامي لا تكاد تخلو من أقوال شاذة تعارضها، إلا أنها لا تقوم لها، ولا تضر الإجماع في شيء.  ومن جهة أخرى لا تُسوِّغ هذه الأقوال الشاذة لأحد – خاصة من أهل العلم – التقليد فيما تبين له خطؤه، فليس كل من قال قولاً تُوبع عليه؛ إذ الحق هو المُعتبر دون الرجال، ونبش كتب التراث  على نوادر الفقهاء، وغرائب أقوالهم مسلك مذموم في الشريعة، يأباه طالب الحق المتجرد عن الهوى، قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: "من حمل شواذ العلماء حمل شراً كثيراً".

ثم إن فقهاء الأحناف– ممن قال منهم بهذا القول– حصروه في القضاء دون غيره من الولايات العامة، بشرط أن تقضي المرأة فيما يجوز لها أن تشهد فيه، وليس هو عموم القضاء، ثم إنهم مع ذلك لا يتعدون بهذه المسألة الناحية النظرية التي يناقشها الفقيه دون أن يكون لها واقع تطبيقي؛ فقد نصُّوا صراحة بأنه لا ينبغي للمرأة أن تتولى القضاء، حتى في المسائل التي يجوز فيها قضاؤها، بل ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك: حتى إنهم لم يُلزموا الفتاة المخدرة – حتى وإن لم تكن بالغة– الحضور إلى مجلس القاضي في خصومة لها، بل يرون أن القاضي هو الذي يذهب إليها، أو يبعث من يثق فيه ليسمع أقوالها، والأحناف من أشد الفقهاء في مسألة خروج المرأة إلى صلاة الجماعة، حيث يحصرون الخروج في الكبيرات، وفي المساء دون النهار، فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يسمحون لها بعد ذلك أن تترأس الناس في مجلس إدارة أو وزارة أو قضاء،  مما يدل في الجملة على أن مسألة تولي المرأة للقضاء لا تعدو الناحية النظرية التي يناقشها الفقيه، دون أن يكون لها واقع في الحياة، وهذا كثير في كتب الفقه؛ خاصة أنه لم يثبت أن تولَّت امرأة قطُّ في التاريخ الإسلامي مهام القضاء، فكان ذلك إجماعاً، رغم أن غالبية من تولى منصب قاضي القضاة في الدول الإسلامية المتعاقبة من الأحناف، فلم يثبت أنهم عيَّنوا امرأة قط؛ بل إن من يُجيز منهم إنفاذ قضاء المرأة فيما يجوز شهادتها فيه: يُلحقها ويُلحق من ولاها الإثم. ومازال باب القضاء حتى اليوم موصوداً في طريق النساء حتى في بعض الدول الأجنبية، ولم يُسجَّل دخول بعض النساء القضاء في أوروبا وأمريكا إلا في الثمانينات من القرن العشرين.  وليس من علَّة لمنع المرأة من هذه المناصب سوى الأنوثة، وفي هذا يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لو كانت امرأة تكون خليفة لكانت عائشة خليفة".

ومع ذلك فإن الولايات العامة تكاليف وواجبات، وفروض كفائية لا تتعلق" بحقوق وامتيازات تحرم منها المرأة، وإنما المنع هنا في أساسه رحمة بها، وإعفاء لها من المسؤولية التي قد لا تقوى عليها بحكم طبيعتها" الفطرية وما جبلت عليه، فإبعاد المرأة عن الشهادات في الحدود والجنايات – مع مراعاة طبيعة النسيان عندهن في مثل هذه المواقف الشرعية الخطيرة– يعتبر تكريماً لها من جهة أن هذه الأعمال ليست ميزات تتمتع بها؛ بل هي تكاليف ومشاق وعناء لما فيها من الطعن في العدالة، والجلد حال كون الشهادة في الزنا– مثلاً– غير مستوفاة الشروط الشرعية، فإقصاء المرأة عن مثل هذه المواقف تكريم لها. كما أن الفروض العينية التي كلفها بها الشارع الحكيم لا تقل أهمية عن فروض الكفاية التي تتطلع إليها؛ فإن فيها من حجم التكاليف والمهام ما يُغنيها عن التطلع إلى المزيد؛ بل إن الشارع الحكيم يمنع هذه المناصب من سألها وحرص عليها، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "إنا لا نولِّي هذا من سأله، ولا من حرص عليه"، "ووجه الدلالة بهذا الحديث الشريف أنه لو كان تولي الوظائف العامة حقاً للمسلم بمعنى إلزام الدولة بإجابته إذا طلبه: لما كان طلبه سبباً لمنعه منه؛ لأن الحقوق لا تسقط بالمطالبة بل تتأكد"، وهذا يدل على أن هذه المناصب تكاليف ومشاق وليست مواقع حقوق واستمتاع يطالب بها الناس، ثم إن الشارع الحكيم حين يقدم للولايات أناساً ويؤخر آخرين إنما يصنع ذلك للمصلحة، فيقدم لكل نوع من الولايات من هو أقوم بمصالحها، "وربَّ كامل في ولاية ناقص في أخرى كالنساء ناقصات في الحروب كاملات في الحضانة". ولهذا ألزم بعض العلماء الإمام أن يعزل القاضي إذا وجد من هو أولى منه بالقضاء؛ حتى لا يفوِّت على المسلمين مصلحة. فهل مرَّ على التاريخ الإسلامي بل وحتى التاريخ البشري أن كانت هناك امرأة هي أولى بولاية عامة من سائر رجال عصرها؟.

والسؤال الذي يطرح نفسه: متى بدأ حق المرأة الشرعي في تولي الوظائف السياسية العامة ؟ فإذا كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم – وهو المخول بإقامة العدل – فإنه لم يولها شيئاً من ذلك، وإذا كان بعد وفاته عليه السلام : فمن هذه المرأة التي تصلح أن تكون خليفة بدلاً من أبي بكر رضي الله عنه، أو قاضيه بدلاً من عمر أو علي رضي الله عنهما، أو قائدة عسكرية بدلاً من خالد وسعد وأسامة رضي الله عنهم.

لقد مر على التاريخ الإسلامي عالمات فضليات، بلغن درجة الفتوى ومع ذلك لم يُستخدمن في شيء من الشؤون العامة، ولم يطالبن بذلك، ولم يرين لهن حقاً في ذلك، ففي كل عصر لابد يُوجد من الرجال من هم أولى من عموم النساء، وما مر على البشرية زمن كانت هناك امرأة هي أولى بمهمة سياسية عامة من سائر الرجال.

إن السبب الذي من أجله لم يبعث الله تعالى امرأة رسولاً ولا نبياً هو عين السبب الذي لم يخولها فيه لتكون رئيسة أو أميرة أو قاضية.

وأختم فأقول: لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم رجلاً "، أكنا نفهم منها غير الذي نفهمه من قوله المحكم عليه السلام : " لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة " !! ولو قُدَّر أن كان على قوم سبأ رجلاً أكان الهدهد يقول متعجباً: " إني وجدت رجلاً يملكهم " !!