رغم تحفظ بعض المفتين في هذا العصر تجاه مشاركة المرأة السياسية فإنهم – مع ذلك – يلينون إلى حد كبير في جواز مشاركتها في اختيار أهل الحل والعقد كنواب يمثلون طوائف الشعب، ولاشك أن هذا التوجه فيه مجاراة للواقع السياسي الذي يهيمن عليه النموذج الغربي لنظام الحكم، الذي يفرض على الشعوب تمكين النساء سياسياً من خلال برامج الأمم المتحدة، واتفاقياتها الدولية، وإعلاناتها العامة لحقوق الإنسان، "فليست المجالس النيابية، ووسائل ترشيح الناس لها، وانتخابهم إلا صورة من صور الأنظمة الغربية التي تتجاهل خلق الإسلام وآدابه"، ومع ذلك فإن هذه الصور من الممارسة السياسية لم ترد عن السلف، رغم إمكانية ذلك في زمانهم؛ ما ورد عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في شأن تقديم أحد المرشحيْن للخلافة: عثمان أو علي رضي الله عنهما، وما رُوي في ذلك من استشارته بعض العامة من الذكور والإناث. فإن هذا لم يكن من باب التصويت والاقتراع العام الملزم، إنما كان استئناساً واجتهاداً منه لا يلزمه الأخذ به؛ إنما فعله لتعزيز قراره السياسي في نفسه بين شخصيتين معروفتين عند الجميع من الصغار والكبار تصعب المفاضلة بينهما في جو من السلامة الأخلاقية، والعفوية الاجتماعية، ومع ذلك فإنها حادثة حال منقرضة لا يُعرف لها مثيل في تاريخ الأمة السياسي، إضافة إلى أن استشارته انحصرت في أهل المدينة دون غيرهم من أمصار المسلمين، وحتى مكة لم تكن ضمن حدود استشارته، مما لا يُعدُّ استفتاء عاماً، إلى جانب أن الذي قام به ليس حاكماً وإنما شخص من عامة الشعب، أنيطت به مسؤولية سياسية. هذا كله على اعتبار صحة الواقعة؛ فإنها لم تُرو بسند، ولم تذكرها الكتب المعتمدة التي ترجمت له. إلا أن كتب التاريخ هي التي تنقل مثل هذه الأخبار غير المسندة، حتى إن ابن كثير نقل أن عبد الرحمن بن عوف استشار الولدان في المكاتب. فهل يكون بناء على ذلك جواز استشارة الأطفال في مثل هذه المسائل السياسية الشائكة؟
ومما ينبغي أن يُعلم أن الترشيح نوع من التزكية والتعديل وهذا مقام خطير، يُشترط له التقوى والعلم، والمباشرة دون السماع والتقليد، وهذه الأحوال يصعب اجتماعها في النساء؛ ولهذا لا تُقبل التزكية من المرأة للرجل مطلقاً عند كثير من العلماء، لا فيما يجوز شهادتها فيه ولا في غيره، ومن قَبلها منها اشترط عليها المعرفة بأحوالهم، ولما كانت المعرفة بأحوالهم لا تحصل إلا بالمخالطة والمعاطاة: لم يُعرف للمرأة عبر التاريخ الإسلامي في باب الجرح والتعديل، وتقويم مراتب الرجال، ومعرفة طبقاتهم قول يُذكر، فضلاً عن أن يكون لها قول يُعتمد، فطبيعتها الأنثوية، ووظيفتها الفطرية تعيقها عن مثل ذلك. فإذ عرفت المرأة المعاصرة ما لم تعرفه المرأة في السابق عن أحوال الرجال التي لم يكن يطلع عليها إلا الرجال فإن معرفتها هذه كافية للشك في عدالتها، ورد تزكيتها؛ إذ لا يمكن أن تحصل لها المعرفة بأحوال الرجال إلا بمخالطتهم ومعاشرتهم، وهذا لا يكون إلا ممن قلَّ حياؤها، وبدت جرأتها. فالمرأة المتصدية للترشيح لابد واقعة في إحدى المذمتين: أما مذمة التقليد والخرص بجهلها وغفلتها، وهذا لا يجوز ديانة ولا يُجزئ في التزكية، وإما مذمة الجراءة والاسترجال بمعرفتها واختلاطها، وكلاهما قبيح من المرأة المسلمة.
إن المجتمع المسلم الذي يعيش الإسلام حقيقة واقعية لا يحتاج فيه أهل الحل والعقد إلى تزكية العوام والنساء، بل لا يحتاجون إلى تزكية أحد على الإطلاق، فهم فوق مستوى هذه التزكية؛ إذ هم السواد الأعظم الذي يتبعه العوام، يُعرفون: بعلمهم وجهادهم ودعوتهم، لا يكاد يخلو منهم زمان. ومن المعلوم أن من استفاض عند أهل العلم فضلهم وعدالتهم، وشاع الثناء عليهم فإنهم لا يحتاجون إلى نصِّ من أحد على تزكيتهم وإثبات عدالتهم. فإن جَهِل المجتمع حالهم، ولم يعرف مكانهم – كما يراه البعض في هذا الزمان– فهو لغيرهم أجهل، وعن صواب التزكية أبعد، فإن قيل بفسادهم في هذا الزمان: فإن غيرهم في هذا الزمان لابد أفسد وأرذل.
وأما القول بأن الترشيح نوع من التوكيل؛ حيث توكل المرأة من ينوب عنها في اختيار الحاكم، ومراقبة أجهزة الدولة، فهذا القول أيضاً مردود؛ إذ إن اختيار الإمام فرض على الكفاية لا على الأعيان، وهو مناط بمن هم أهل له ممن يأثمون من أهل الحل والعقد بتأخيره، فلا يحتاجون إلى توكيل من أحد للقيام بالواجب، وأما عامة الناس– بمن فيهم النساء– فلا يأثمون بتأخيره؛ لأنهم غير مقصودين بهذا الفرض أصلاً، فلا يحتاجون لتوكيل أحد للقيام به، والشخص لا يصح منه التوكيل في شيء إلا فيما يملك أن يقوم به بنفسه، فيما يصح فيه التوكيل، فإذا كان لا يملك أن يتصرف فيه بنفسه فإنه من باب أولى لا يملك أن يوكل فيه غيره، فالمرأة– مثلاً– لا يصح أن تكون " وكيلة عن غيرها في مباشرة عقد الزواج؛ لأنها لا تملك مباشرة عقدها بنفسها فلا تملك مباشرة عقد غيرها". وكذلك مهمة مراقبة الحاكم وأجهزة الدولة فهذه مناطة أيضاً بمن نصَّب الحاكم من أهل الحل والعقد، فهم أهل الاختيار وهم أيضاً أهل المراقبة والمتابعة، فلا يحتاجون إلى توكيل من أحد للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر– ضمن الضوابط الشرعية– ومن لم يكن أهلاً لهذه المسؤولية فإنه لا يحتاج إلى توكيل أحد للقيام بها؛ لكون الواجب قد سقط عنه لعدم الأهلية. ومع هذا فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية عند جمهور العلماء ولاسيما إذا رآه أكثر من شخص، كما أن له شروطاً لممارسته، فليس كل أحد يعرف كيف يمارسه، وينضبط بأحكامه. ومع هذا كلِّه فإن الوكالة لا تجوز إلا عند الضرورة، وليس هنا من ضرورة.
ثم إن الحسبة لا تخلو من أن تكون فرضاً عينياً على الجميع ذكوراً وإناثاً، فلا تصح فيها الوكالة، وإما أن تكون فرضاً كفائياً فلا يحتاج أحدٌ إلى التوكيل لقيام البعض به، فإذا لم يقم به أحدٌ أصبح فرضاً عينياً على الجميع الذكور والإناث– كحالته الأولى– فلا تصح فيه الوكالة أيضاً؛ إذ الكل مطالب بعينه.
إذا تقرر هذا المبدأ في حصر قضية أهل الحل والعقد في صفوة رجال الأمة: فإن لهؤلاء، وللإمام ونوابه من المسؤولين الحق في مشاورة عاقلات النساء وفضلياتهن – فرادى وجماعات– فيما تحتاجه الأمة – خاصاً بالنساء– مما لا يطلع عليه الرجال، ولا يمكن لهم أن يعرفوه إلا من جهتهن؛ فقد أمر الله تعالى بمشاورتهن في مسألة الرضاعة والفطام؛ لكونهما ألصق بمهام النساء؛ ولهذا لما سأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنها عن مدة صبر المرأة عن زوجها: استهجنت سؤاله في مثل هذه القضايا الخاصة، فقال لها مبرراً ذلك: "والله لولا أنه شيء أريد أن انظر فيه للرعية ما سألت عنه".
وبناء على ذلك لابد أن تنحصر المشورة في صاحبات التخصص في مواقعهن: المنزلية، أو التعليمية، أو الصحية، أو الإدارية ونحوها، بعيداً عن نزاعات وهيشات مكاتب الاقتراع. ويكون ذلك بقدر الحاجة التي يفتقر إليها صواب صنع القرار السياسي الخاص بهن، ويحقق المصلحة الشرعية والاجتماعية العامة، وليس لمجرَّد المشاركة السياسية. بشرط أن يكون كل ذلك في غير تبرج أو اختلاط، أو بروز سياسي عام، بحيث يُكتفى في كل هذا بوسائل الاتصال المختلفة فإن الكتابة تقوم مقام المخاطبة. واستخدام أجهزة الاتصال الحديثة في إبرام العقود والبيع والشراء جائز، ولاشك أنها جائزة الاستخدام أيضاً في مثل هذه الاستشارات النسوية مراعاة لطبيعة خصوصية النساء في المجتمع الإسلامي. وإلى هذا الحد تكون حدود استشارة النساء في المجتمع المسلم كما طبقها السلف.