4ـ تعارض الأنوثة التاريخي مع الولايات السياسية العامة

رغم ما سجَّله التاريخ الإنساني من تولي بعض النساء زمام عروش بعض الدول، وتنفُّذهن في كثير من أمور السياسة العامة: فإن هذه الأحوال التاريخية لا تتجاوز الظاهرة العرضية، والحوادث الفردية التي تحصر هذه الوقائع السياسية ضمن حد الندرة والشذوذ؛ فمازال الرجل في كل الأمم هو المسيطر على زمام الشؤون السياسية العامة منذ فجر التاريخ البشري، حتى إن البرلمان الفرنسي إلى عام (1593م) كان يُصدر قراراته بمنع تولي النساء أي وظائف للدولة، فضلاً عن الوظائف السياسية الكبرى؛ مما يدل على أن النساء كن بعيدات
– تاريخياً– إلى حد كبير عن معترك الساحة السياسية، فحديث التاريخ عن الزعامة والقيادة والبطولة، والمشاركات في الحياة العامة، ونحوها من المهام الاجتماعية العامة يكاد ينحصر برمته في الرجل دون المرأة.

ولم تكن هذه الصورة الإنسانية لتتخلف عن أمة الإسلام التي تعتقد وتهتدي بقول رسول الله r: " لن يفلح قوم تملكهم امرأة"؛ حيث لم يكن للنساء أيُّ نفوذ سياسي أو إداري زمن النبوة، وفي الصدر الأول من تاريخ الإسلام، فضلاً عن أن تُسند إليهن ولاية عامة: في إدارة شؤون الأمصار، أو القضاء، أو الشرطة، بل لم يكن بين عمال الدولة زمن الخلفاء الأربعة امرأة واحدة في أي شأن من الشؤون السياسية، أو الإشراف الاجتماعي العام، أو حتى مجالس الشورى؛ بل وحتى في الكتابة؛ فقد كان لرسول الله r أكثر من ثلاثين كاتباً يكتبون له الوحي، والمواثيق، والرسائل، ليس بينهم امرأة واحدة رغم وجود كاتبات من النساء في ذلك الزمن، فلا يُعلم أن خليفة من الخلفاء استخدم امرأة قط في شيء من الشؤون السياسية.  ولا شك أن عمل أهل المدينة زمن الخلفاء حجة قاطعة باتفاق المسلمين، وطريقتهم: "سنة يُعمل بها ويُرجع إليها"، وفي الحديث قال رسول الله r :" … فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجذ". وما يُنقل عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تولية امرأة الإشراف على سوق المدينة فلا يصح من جهة السند، ولو صحَّ فإنه لا يعدو تقديم امرأة كبيرة في السن تكون له عيناً في السوق، تُجسُّ له أخبار الناس؛ فإن النساء ألطف بمثل هذه المهمات السرية، ومازال كثير من الساسة المسلمين عبر التاريخ الإسلامي يتخذون من مثل هؤلاء النسوة العجائز عيوناً لهم، ينقلن إليهم أحوال الناس الباطنة، وشيئاً من أخبار الأعداء، وكيف يسوغ لعمر رضي الله عنه أن يولي امرأة وعنده فضلاء الصحابة من أهل بدر والحديبية، بل إن عمر لما أدخل ابن عباس رضي الله عنهما مجلس الشورى أنكر عليه بعض الصحابة لصغر سنه، فكيف يُترك الإنكار على عمر رضي الله عنه حين يولي امرأة على سوق الناس ؟ فإن الكتب العلمية المعنية بمثل هذه الأمور لم تنقل إنكاراً على عمر في هذه المسألة، مما يدل على أن الخبر لا يصح عنه، كما صرح بذلك ابن العربي والقرطبي وغيرهما، وإذا أصرَّ المخالف بثبوت الحادثة دون نكير كانت إجماعاً، وإجماع الصحابة من الحجج القاطعة، والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف خفي هذا الإجماع على الأمة من بعد عهد عمر، فلم يُنقل، بل كيف يسوغ للعلماء من بعد هذا الإجماع الخلاف في مسألة تولية المرأة شيئاً من الشؤون العامة. والذي يظهر أن هذه المرأة التي يدور عنها الحديث هي الشفاء رضي الله عنها وهي من المهاجرات الأول، وكانت تسكن في السوق، ومن هنا جاءت شبهة توليها السوق، "وكان عمر إذا دخل السوق دخل عليها"، فهي حين تنقل شيئاً لعمر فإنما تنقله من واقع حياتها في باطن السوق، فلا يُسمى مثل هذا ولاية، وإنما هو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وهذا لا يختص بالجنس.  ولو صحَّ كون عمر رضي الله عنه يرى جواز تولية النساء شيئاً من الشؤون السياسية لكانت السيدة عائشة رضي الله عنها أولى النساء بذلك، فهي في زمنه أعلمهن وأفضلهن على الإطلاق من كل وجه دون منازع، حتى قال عنها علي رضي الله عنه: "لو كانت امرأة تكون خليفة لكانت عائشة خليفة"، ورغم ذلك لم يكن لها في الشؤون السياسية أيُّ ولاية إدارية أو إشرافية على الناس، وليس ذلك إلا بسبب الأنوثة. فإذا صحَّ للأمة أن تستغني عن خدمات السيدة عائشة السياسية، فأيُّ امرأة بعدها يمكن أن تحتاج إليها الأمة في شؤونها السياسية ؟. وأما ما يزعمه بعضهم من أنها رضي الله عنها كانت موضع استشارة للخلفاء في كثير من شؤون الدولة، فهذا إدعاء لا يستند إلى دليل، فهذه كتب السيرة والتاريخ ليس فيها شيء من هذه الاستشارات السياسية.

وأما ما حصل بعد ذلك في تاريخ الإسلام السياسي عند ذهاب عافية الأمة من تنفُّذ بعض النساء، وتولي بعضهن قمة الهرم السياسي، فإنه لا يتعدى حوادث فردية شاذة مُستنكرة، حصلت في زمن غفلة الأمة وخمولها، ضمن ظروف سياسية واجتماعية خاصة، هيأت لهؤلاء النسوة فرصاً للبروز السياسي عن طريق الخيانات السياسية والاحتيال، أو عن طريق أحد المحارم بحيث ترث منه الملك، أو تتسلط عبر نفوذه.  وهذا شأن غالب النساء اللاتي تولين قيادات أممهم عبر تاريخ الشعوب الإنسانية المختلفة بما في ذلك أمة الإسلام: فمنهن من تولت عن طريق زوجها، ومنهن من تنفَّذت عن طريق ابنها، ومنهن من تمكَّنت عن طريق أبيها.  فلم يكن كل ذلك – في الغالب– باختيار الشعوب ورضاها، وإنما فُرض عليهم فرضاً ضمن أنظمة وراثة الملك، أو الوصاية على العرش، أو قوة السلطان العسكري، في ظروف سياسية واجتماعية خاصة.

ومع ما سجَّله التاريخ الإنساني من أخبار تولي بعض النساء زمام القيادات الاجتماعية، والإدارات السياسية: فقد سجل إلى جوار ذلك مآسي تسلطهن السياسي، وما آلت إليه أحوال تلك الدول من الضعف والاختلال، وما أعقب ذلك من الزوال والسقوط، وضياع الأمجاد حتى غدت المعادلة قوية بين ظاهرة نفوذ النساء السياسي والاجتماعي، وبين اختلال الحياة العامة واضمحلال الدول.

ولقد أثبت التاريخ: " أن الرجال في أقوم الأزمنة التي مرت بتاريخ الشعوب كانوا يميزون تمييزاً دقيقاً بين الوظائف والواجبات العامة، وبين علاقاتهم بالنساء، وذلك بالقدر الذي يحول دون … سيطرة النساء على الشؤون السياسية سواء أكان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة"، وهذا لما استقر في أذهان الشعوب عبر تراكم الخبرات الإنسانية: أن الشؤون السياسية تتعارض – بصورة كاملة– مع الطبيعة الأنثوية.