إن الضابط الأنثوي حينما ينطلق في كفِّ المرأة عن مطلق المشاركة السياسية الميدانية بأبعادها المختلفة لا ينطلق من الأصول الشرعية والتاريخية فحسب؛ بل إن لـه من رصيد الفطرة المُستحكمة الغالبة ما يُؤِّيد توجهه، ويعزِّز سلطانه؛ فرغم انفتاح المرأة العالمي على الشؤون السياسية: اطلاعاً، وتعلماً، وتأليفاً، وممارسة فإن الواقع الميداني المعاصر لايزال يحمل الصورة القديمة لتخلف المرأة السياسي أمام الرجال، إلا في جوانب شاذة باهتة لا تغير من الحقيقة شيئاً؛ فمازال النساء ضعيفات الاهتمام بالشؤون العامة: الاجتماعية منها والسياسية، المحلية والعالمية، وحتى ميدان الانتخابات الذي فتح لهن منذ سنوات: يُعرضن عنه، ولا يشارك فيه إلا القليل النادر من النساء المتحررات. رغم التشجيع المستمر، والمباركة من بعض المنتسبين إلى الشريعة. وأما ميدان التأليف السياسي فإن إنتاجهن أقل من أن يُذكر، رغم أنهن ربما يشكِّلن ثلث حجم الطلاب في بعض كليات الحقوق، إلى جانب ضحالة ثقافتهن السياسية، وضعف قراءتهن فيها. وهذا الواقع ليس بغريب على تاريخ المـــرأة؛ ففي ســـجل كبير ضمَّ (1828) رسالة عربية في الشؤون السياسية ونحوها من القضايا لم يوجد بينها إلا (18) رسالة تخص سبعة نسوة، ومع ذلك يصعبُ نسبتها إلى السياسة إلا في حدود ضيقة.
والعجب في شأن سلطان الفطرة الأنثوية: أن إحداهن تكون في بؤرة العمل السياسي ضمن صراعه البرلماني، وعطائه الصحفي فإذا بها– مختارة راضية– تنحاز برلمانياً نحو لجان الخدمة الاجتماعية والتربوية، وتندفع صحفياً نحو صفحات الأزياء والزينة النسائية، تاركة وراءها عراك السياسة الميدانية مرة أخرى للرجل. وكأن قضية الممارسة السياسية أقوى بكثير من مجرَّد التحدي الأنثوي، وأعمق بمراحل من مجرَّد المعالجة السطحية التي تروم تغيير الفطرة، وتبديل حقائق الإنسان، كما قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، فالمسألة السياسية من هذه الجهة الميدانية تتعارض مع الأنوثة، وتتنافر معها.
ولئن كان الضابط الأنثوي يمنع المرأة من مطلق المشاركة السياسية الميدانية، فإن الواجب التكليفي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يفتح لها باباً ضخماً للمشاركة الإصلاحية والاحتساب السياسي رغبة في الأجر، ضمن حدود استطاعتها، وفي إطار الضوابط الشرعية والأخلاقية العامة؛ فإن هذا المبدأ الإسلامي لا يتعلق بالجنس، بل يصح من كل مسلم عارف قادر، فإن كلَّ فرد بالغ في المجتمع مُخاطب بأن يكون عضواً اجتماعياً صالحاً في نفسه، ومُصلحاً لغيره. وممارسة الإناث لهذا المبدأ علامة بارزة على صلاح الدين، وقد سجل التاريخ لبعضهن مواقف إيجابية مشرقة في ميدان الإصلاح الاجتماعي في غير ريبة سلوكية أو مذمة خلقية. وإنما المنع الوارد في حق الأنثى أن تُسند إليها ولاية الاحتساب العامة، في حين يصح أن تُسند إليها مهمة الاحتساب الخاصة على جنس الإناث في مواقعهن المستقلة.
وعند مراجعة تاريخ المرأة المسلمة السياسي في جميع أطواره يجده الباحث مفعماً بآثار الإيمان، والروح المعنوية العالية، والعطاء الثري رغم بعدها الكامل عن مواقع الإدارة السياسية في الولايات العامة ومجالس الشورى أو الشُّرَط ونحوها من ميادين البروز الميداني. فالسلطة السياسية في طورها الإيماني المستقيم لاقت من المرأة المسلمة كل صور الفداء، والثبات، والدعم المادي والمعنوي، في أعلى صور الأمر بالمعروف. فلم تكن إحداهن تتردد في دعم السلطة بنفسها، أو مالها، أو ولدها، أو زوجها. مع كمال الامتثال لطاعة ولي الأمر ظاهراً وباطناً في غير معصية.
وأما طور الانحراف السياسي فقد شاركت المرأة المسلمة في دفعه بالاحتساب على السلطة ابتداء من تنبيه الحاكم على أخطائه في بعض المسائل العلمية، ووعظه بما يجب عليه، ومن ثمَّ الإنكار عليه والإغلاظ له في القول في غير خوف أو تردد. بل إن التاريخ الإسلامي سجل لبعضهن مساعيهن الجادة في خلع بعض الظلمة والمرتدين، في صور من الكيد الإيجابي لصالح الدين. ومازال عطاؤهن الإيجابي– أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر– مستمراً في كل عصر، حتى إنهن في أشد فترات الزمان ظلمة واضطهاداً، لم يتوقَّفن عن الدعوة إلى الله تعالى، ودعم التوجه الإسلامي، في مواقف من العطاء يعجب من مثلها التاريخ.
إن هذه النماذج من المواقف السياسية الإيجابية هي ميدان التنافس السياسي الصائب للمرأة المسلمة في كل عصر، وليس هو مجرد البروز الاجتماعي في أروقة البرلمانات، أو مناصب الولايات، أو منازعة أهل الحل والعقد سلطانهم. خاصة في هذا الزمن الذي أدركت فيه فئات كثيرة من النساء الغربيات زيف العمل السياسي، وأصبح واضحاً عند الكثير: أن الحرية السياسية المزعومة لا تعدو أن تكون فكرة خادعة بلا حقيقة يتلقَّفها صغار العقول، وأن العمل السياسي في هذا العصر– كثيراً ما يكون– صورة من صور الانسلاخ الأخلاقي في ظل الأنظمة الجاهلية.
إن هذه النظرة السياسية من خلال الضابط الأنثوي بأبعادها المختلفة هي المحور الأساس في التربية السياسية للفتاة المسلمة المعاصرة مع دخولها سن التكليف، بحيث تُنزَّل هذه المفاهيم السياسية في نماذج تربوية من خلال: الأسرة، والمنهج التعليمي، والنشاط المدرسي، ووسائل الإعلام ونحوها، بحيث يتخذ من تجربة السيدة عائشة رضي الله عنها– فيما استقر عليه مذهبها– النموذج السياسي الأمثل للمرأة المسلمة المعاصرة، من جهة انعزالها الكامل بعد موقعة الجمل عن الميدان السياسي العام، وعودتها إلى منهج الاحتساب السياسي الذي كانت عليه قبل الموقعة من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوعظ والإرشاد، وبيان وجه الحق، وتتبع الأخبار والوقائع وتحليلها، والكتابة في ذلك، دون أن يكون لها في كل ذلك أيُّ بروز سياسي عام – تماماً– كحال أم سلمة رضي الله عنها والتابعية عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد رحمها الله، بحيث تنطلق المرأة في هذا من واجب الاهتمام بأمر المسلمين، ومعرفة أحوالهم وليس من باب الاستمتاع بالحق السياسي. وليكن موقف المرأة المسلمة المعاصرة من البروز السياسي العام كموقف أم جعفر زبيدة (ت216هـ) بنت جعفر المنصور زوج الرشيد لما قُتل ولدها أمير المؤمنين الأمين بن الرشيد، حين دخل عليها بعض خدمها فقال لها: "ما يُجلسك وقد قُتل أمير المؤمنين ؟ فقالت: ويلك وما أصنع ؟ قال: تخرجين وتأخذين بدمه كما خرجت عائشة تطلب دم عثمان، فقالت: إخسأ لا أم لك وما للنساء وطلب الدماء". ففهمت رحمها الله أن السيدة عائشة رضي الله عنها ليست قدوة تتبع في هذا الموقف، ولاسيما أنها قد ندمت عليه، وأن خروجها يوم الجمل لطلب دم عثمان رضي الله عنه لم يزد المشكلة إلا تعقيداً، فلم يتحقق المقصود من الخروج لتشخيص قتلة عثمان رضي الله عنه، فضلاً عن إقامة الحد عليهم، في حين أنها لما علمت بغضب زوجها الرشيد على الإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت189هـ) تلميذ الإمام أبي حنيفة النعمان، ومنعه لـه من أن يفتي: توسطت عند زوجها وأعادت لـه اعتباره، وهكذا تعرف أين تضع جهدها السياسي، وعطاءها الإيماني.
ولابد مع كل هذا من ضرورة استيعاب المرأة المسلمة المعاصرة للرحمة الربانية من حكمة إعفاء النساء من المسؤولية السياسية الميدانية حتى لا يبقى في نفسها ما يشعرها بالانحطاط الاجتماعي؛ فإن المرأة في القرون المفضلة رغم انعزالها الكامل عن معترك الميدان السياسي كانت – بصورة دائمة– موضع اهتمام القيادة السياسية وإعظامها واحترامها وإشفاقها، بحيث لا يكون انعزالها السياسي سبباً في رفض حقها في الفتوى إن كانت عالمة، أو حقها في الشكوى إن كانت مظلومة، أو حقها في العطاء إن كانت فقيرة، أو حقها في الاختيار الاجتماعي إن كانت حرة. بل إن نظام الإجارة بحيث يصبح دم المُقاتل الكافر معصوماً بإجارة المرأة المسلمة: كان ديناً تتعبد به القيادة السياسة، مراعية اجتهاد المرأة في ذلك. ولم يكن هذا قاصراً على الحرائر من النساء، بل إن الأمة المملوكة لتُجير الرجل الكافر فيلتزم بذلك المسلمون جميعاً، ولا يتقدَّمون إليه بأذى.
إن من الضروري أن تعرف المرأة: أن هذا الانعزال السياسي لا يتجاوز حدَّ الممارسة الميدانية التي أعفاها الشارع الحكيم منها، أما الواجب الاجتماعي والحقوق العامة التي يتمتع بها أفراد المجتمع عامة فإن الإناث – الحرائر والإماء– يدخلن فيها بحكم المواطنة والفرض التكليفي في غير شطط أو ريبة.