8ـ توافق الفتاة الاجتماعي

إن تكيف الفرد في البيئة الاجتماعية أحد ركني الصحة النفسية، فالفرد الإنساني -ذكراً كان أو أنثى- بفطرته الطبيعية ميَّال إلى التجمع، نافرٌ من العزلة، وإحساسه بذاته، وشعوره بنفسه، ونمو شخصيته كفرد لا يتحقق له إلا على أساس وعْيه المستمر بالآخرين في وسط اجتماعي فاعل، يشعر من خلاله بقوة "اللحمة بين فرديته والجماعة، فتضفي روح الجماعة  على نفسه شيئاً مما ترنو إليه من دعة واستئناس وطمأنينة"؛ فالمجتمع بمقوماته المختلفة هو الأساس "الذي يميِّز الفرد الإنساني في المرحلة الاجتماعية السيكولوجية، عنه في المرحلة الفردية البيولوجية"؛ فالضَّحك -على سبيل المثال- باعتباره خاصِّية إنسانية نفسية وبيولوجية متميِّزة، لا يمكن أن يحصل إلا من خلال الاحتكاك بالآخرين في مجتمع إنساني عضوي.

إن من أهم ما يحققه المجتمع لأعضائه: إشباع حاجتهم إلى الانتماء الجماعي، وإشعارهم بالقبول والتقدير والحب والرعاية، فتعمل هذه الإشباعات الضرورية بمجموعها على السُّمو بالفرد، وتحديد هويته، وتُشْعره باحترام الذات، فيبعث ذلك كُلُّه في نفسه الشعور بالأمن والطمأنينة، والاستقرار النفسي، والفتيات -في كل هذا- أحوج نوعي الإنسان إلى القبول والتوافق الاجتماعي، وأفقر إلى التمتع بآثاره الإيجابية؛ إذ يكتسبن من ذلك قوة تعالج ضعفهن الطبيعي، وشحنة تزيد من تأكيدهن لذواتهن، بحيث لو عجزت إحداهن عن إشباع حاجتها للقبول في وسطها الاجتماعي: انساقت تحت هذا العجز النفسي -بطريقة عفوية أو متعمدة- نحو صورة من صور الاستثارة العاطفية كادِّعاء المرض؛ لتجذب من خلاله اهتمام الآخرين ورعايتهم، فتظهر عليها بالفعل مظاهر أعراض مرضية: من صداع، وغثيان، وإغماء ونحوها من الأعراض المرضية.

وتكون المشكلة النفسية أكبر على الفتاة، ومعاناتها أعظم، إذا ما ساقها الإخفاق الاجتماعي نحو الوحدة والانزواء، فإن الإسراف في هذا المسلك الموحش: هو بداية الخبل العقلي المبكر الذي يصاب به عادة كثير من المنعزلين اجتماعياً؛ ولهذا نهى رسول الله r عن الوحدة، وأشار الحكماء منذ القديم إلى خطورتها، ولا سيما على قدرات الإنسان العقلية بصفة خاصة.

ورغم أن "ظاهرة الشعور بالاغتراب بين الشباب ظاهرة تكاد تكون عامة"، خاصة عند الإناث من فئة الشباب؛ فإنها لا تُعدُّ حالة مرضية، أو اضطراباً نفسياً ما دامت الإصابة بها مؤقتة، بحيث يعود الفرد في زمن يسير لحالته السوية الطبيعية، وإنما تُعَدُّ مشكلة نفسية، واضطراباً يحتاج إلى علاج: إذا عجز الفرد عن "حل مشكلاته اليومية- خاصة الاجتماعية منها- بشكل يحقق معه ما ينتظره غيره منه، وما ينتظره هو من نفسه"، فيستمر ذلك معه زمناً طويلاً، حتى يصبح طبعاً له.

إن مشكلة فقدان التوافق الاجتماعي لا تنبعث من ذات الفتاة -كما يحصل أحياناً عند الذكور- فإن الفتيات بالفطرة اجتماعيات الطبع والسلوك، حتى على مستوى الرؤى والأحلام حيث تنطبع غالبها بالطابع الاجتماعي السَّوي؛ بل ربما وصل التوافق عند بعضهن إلى أبعد من ذلك فتتوافق إحداهن حتى مع ضرائرها، وإنما ترجع المشكلة غالباً إلى سمة التوتر التي يعانيها الشباب بصورة عامة في المجتمعات المتحضرة المعاصرة، وإخفاق الأسرة في تربيتهم وحسن توجيههم.

إن المنهج السَّوي لتحقيق التوافق الاجتماعي عند الفتاة يعتمد بالدرجة الأولى على تربيتها دينياً، فقد ثبت "أن الأفراد ذوي الاتجاه الديني المرتفع يميلون بقدر أكبر للمشاركة الاجتماعية، والاندماج وسط الجماعة"، ويعتمد في الدرجة الثانية على تبصيرها بضرورة التوفيق بصورة كافية ومستمرة بين الواقع النفسي الداخلي وحاجاته، وبين الواقع الاجتماعي الخارجي ومتطلباته، بحيث تقتنع بصورة جادة: أن عوامل الاضطراب الاجتماعي تبدأ في التسرُّب إلى كيانها النفسي في اللحظة التي تتوقف فيها عن التفاعل الإيجابي مع مقومات الوسط الاجتماعي من حولها، مع ضرورة أن تدرك الفتاة بقناعة كافية أن التكيف الاجتماعي معاناة طويلة الأمد بين الفرد والبيئة التي يعيش فيها، وأن التوافق "عمليات مستمرة، وكل فرد في الوجود يسير من توافق إلى توافق طيلة أيام حياته، وكل توافق مستجد يتألف من تعديل للأنماط السلوكية التي تعلمها الفرد"، فما تزال الفتاة تنتقل -من خلال خبرة المعاناة الاجتماعية- من توافق إلى آخر حتى انقطاع الخبرة بنهاية العمر، فلا بد أن يكون هذا الفهم ماثلاً في ذهن الفتاة، وهي تكابد صراع الحياة في المجتمع من حولها، متطلِّعة نحو توافقها معه.