إن شخصية الفتاة النامية لا تعدو أن تكون نتاجاً لتفاعل ميراثها الفطري البيولوجي مع بيئتها الخاصة، فهي لا ترث بيولوجياً أنماطاً سلوكية، أو توافقات اجتماعية، أو اضطرابات نفسية، أو اختلالات في الشخصية؛ وإنما تتجرع ذلك كلَّه من البيئة الأسرية والاجتماعية من حولها، وقد أشارت الدراسات النفسية إلى "وجود علاقة قوية تربط بين شخصية الفرد الراشد وبين ماضيه البيئي، حيث ثبت أن لاختبارات الطفولة آثارها البعيدة المدى والعميقة الجذور في تشكيل الشخصية، وهذا يعني أن شخصية الراشد تتشكل في غضون سني النمو والنضج، وأن سمات الشخصية في الحاضر هي حصيلة اختبارات الماضي البعيد والقريب على السواء"، فحصيلة الفتاة من السمات الشخصية في مرحلة الشباب تعكس خبرات ماضيها الأسري، فإن كانت خبرات صالحة جيدة: نمت عندها سمات التوافق الحسن، وإذا كانت رديئة مؤلمة: نمت عندها سمات التوافق السيئ.
ويُعتبر الوالدان أعظم وسطاء المجتمع تأثيراً في الفتاة، فقد اتفق الباحثون "على أهمية العلاقة بين الوالدين والأبناء في مراحل العمر المختلفة، وارتباطها بحسن توافقهم"، وأن العلاقة قوية بين اضطراب الوضع العائلي، وبين جنوح الأحداث، وأن "التجارب المؤلمة القاسية يمكن أن تحدث صدمات نفسية، وبالتالي جنوحا" عند كثير من الشباب، خاصة إذا تعارضت -بصورة كاملة- توجيهات الوالدين مع رغبات الأبناء وميولهم: فإن لهذا الوضع العائلي المتعارض تأثيره النفسي البالغ على الناشئين.
وأبلغ من هذا: وجود تلك الحساسية المفرطة في نفوس الأولاد - خاصة الفتيات منهم- تجاه الحالة الوجدانية والنفسية للوالدين، ومدى توافقهما الأسري، وترابطهما الروحي والعاطفي، فكما أنهم يتأثرون بعلاقتهم المباشرة مع الوالدين، فإنهم أيضاً يتأثرون -بصورة غير مباشرة- بطبيعة علاقة الوالدين بعضهما ببعض، فلابد أن يجتمع للفتاة بجانب توافقها مع الوالدين: سلامة العلاقة وثراؤها بين الوالدين أنفسهما؛ لتكمل لها حالة الاستقرار الأسري.
ومن خلال الاستقراء يظهر أن هناك أربع وسائل تربوية، يمكن للأسرة عن طريقها تحقيق أعلى درجات الاستقرار الأسري عند الفتيات:
منها: إغداق الفتاة بالحب والحنان والشفقة الأبوية، بحيث تكتفي بالدرجة، والكم عن الالتفات إلى المزيد في خارج نطاق الأسرة؛ فإن حاجة الإنسان إلى أن يُحبَّ: وُيحَبَّ: فطرية، مركوزة في أصل طبعه، وكثير من أمراض الشباب النفسية تعود إلى نقص الحب الأسري، وبرود العلاقة الأبوية، كما أن الأبناء الذين نالوا حظَّهم الكافي من الحب والرعاية الأسرية كانوا أكثر استقراراً نفسياً، وأعظم تكيفاً اجتماعياً، وأكبر ثقة بأنفسهم، ولعل في قول رسول الله r عن عائشة: "إنها ابنة أبي بكر"، حين انتصرت بحجَّتها على ضرَّتها زينب بنت جحش y جميعاً: إشارة إلى سلامة بيئتها الأسرية، وكمالها من النَّقص المخلِّ بنفس الفتاة؛ لكون العلاقة قوية بين "الحالة الانفعالية للفتاة، وبين حالتها الاجتماعية النفسية" وإلى جانب ما يحمله هذا النَّص النبوي من الإشارة إلى: "كمال فهمها، وحسن منطقها".
ومنها: إشعار الفتاة بقوة السلطة الأبوية، بحيث تحسُّ بوجودها -بصورة دائمة- كقوة مادية ومعنوية ضابطة لكل أفراد الأسرة، فالفتاة فطرياً تحتاج إلى سلطة ضابطة وموجِّهة، تخضع لها، وتشعر بسلطانها، تماماً كما تحتاج إلى عنصر الحنان والمحبة والرعاية؛ فإن ضعف السلطة الأبوية يفقد الفتاة عنصر الشعور بالأمن الذي يسوقها بالتالي إلى عدم التكيف، فلا بد للمربين في الأسرة أن ينطلقوا من مكانتهم السلْطوية، فيتخذوا بحزم وثقة القرارات التربوية المناسبة -أياً كانت- في المواقف الأسرية المختلفة.
ومنها: التعامل مع الفتاة بصورة فردية، بحيث لا تُلْزم الفتاة سلوكياً بمطابقة منهج شخص ما في الأسرة، ما دامت تمارس الحد الأدنى من الآداب والأخلاق الاجتماعية المفروضة، فالإنسان كفرد: عالم صغير قائم بذاته، ولكل فرد شخصيته الخاصة به، التي تختلف في صفاتها: الجسدية، والعقلية، والنفسية… عن غيرها، مما يُحتِّم على منهج التربية الأسرية مراعاة ذلك عند الممارسة والتطبيق ونظام الإسلام التربوي في طبيعته: "لا يُلزم الناس بصورة مثالية معينة مصبوبة في قالب لا تتعداه، وإنما يطالب كل إنسان بأن يبلغ حدود كماله الممكن بحسب استعداداته، وطاقاته، واتجاهاته المتاحة"، والنبي r يضع في هذا المجال القاعدة المثلى للمربين فيقول: "إن الله قسَّم بينكم أخلاقكم كما قسَّم بينكم أرزاقكم …"، فلا بد للأبوين، والمربين عموماً أن ينطلقوا في تربية الفتاة من هذا المبدأ الإسلامي المعتدل، وأن يتعاملوا معها كشخص متفرِّد بلا مثيل مطابق؛ بحيث ينطلقون بها نحو درجات الترقي الخلقي إلى الحد الذي يعلمون عنده أن إمكاناتها الفطرية والكسبية تعجز عن تجاوزه.
ومنها: حل مشكلات الفتاة النفسية أولاً بأول، عن طريق علاج الاضطرابات الصغرى قبل أن تستفحل وتتضخم، مع تدريب الفتاة وتعويدها على حل مشكلاتها الخاصة بنفسها بصورة ملائمة وناجحة، وهذا يتطلب الانفتاح الأبوي المشْفق على الفتاة، خاصة من الأم، فإن الفتاة -بالدرجة الأولى- تميل إليها عادة عند حاجتها للإرشاد وحل المشكلات، وحديث الفتاة عن متاعبها، وهمومها مع الشخص الحاني الموثوق به: كفيل بأن يخفف بصورة كبيرة من معاناتها وغمومها؛ "فإن كثيراً من التوافقات السيئة تزداد سوءاً؛ لأن الشخص لا يجد من يناقش معه الأمور التي يحسبها مخجلة، أو مخيفة فتكون النتيجة: أن يمتلئ بالهم وحده، أو ينجح في كبت الأفكار غير السارة"، وكلا الطريقين مضرٌّ بالنفس، فلا بد من الدور الأبوي الإيجابي في حلِّ مشكلات الفتاة، مع الاعتقاد الجازم بأن كلَّ مشكلة من مشكلات الأبناء -في أي مرحلة كانت- لها حلٌّ، مهما بلغت هذه المشكلة من الخطورة والتعقيد.