49ـ ابتعاث الفتيات المسلمات إلى البلاد الأجنبية

شهدت البلاد الإسلامية في العموم, والعربية على الخصوص توسعاً كبيراً في الابتعاث العلمي للدول الأجنبية, حتى شمل ذلك الإناث من الفتيات المسلمات, بتشجيع وحثٍّ من الأنظمة الحكومية, ورغبة اجتماعية لمزيد من المعرفة العالية التي لا تتوافر في الوطن المسلم, حتى أصبح الحصول على المؤهلات العلمية من البلاد الأجنبية -أياً كان مستواها ومجالها- هدفاً في حد ذاته, تسعى إليه الفتيات كما يسعى إليه الفتيان, في الوقت الذي يعتز فيه اليابانيون بالشهادات العلمية التي تصدر من بلادهم أكثر من التي تصدر عن غيرهم, وفي الوقت الذي عرف فيه الجميع أن تفوق الفتيات المسلمات علمياً في القرون السابقة لم يكن عن طريق الرحلة العلمية حتى لبلاد المسلمين بل كان محلياً في غالبه, ولن تصلُح فتيات هذا الزمن إلا بما صلحت به فتيات الزمن الأول, فالمختار هو المنع المطلق لابتعاث الفتيات الخارجي, لأي مرحلة تعليمية كانت, ولأي تخصص كان, وذلك للأسباب التالية:

السبب الأول: إجماع المسلمين على وجوب الهجرة من بلاد المشركين إلى بلاد المسلمين, بناء على النصوص الشرعية الواضحة بتحريم مخالطة الكفار في ديارهم, وفتاوى العلماء على مرِّ العصور الإسلامية, حيث كان هذا التصور واضحاً في أذهان المسلمين إلى عهد قريب, ربما لا يزيد عن مائة عام؛ إذ كانوا يستنكرون هذا النوع من السفر, ويسقطون به عدالة متعاطيه لغير مصلحة شرعية معتبرة, ولما حصل التطور التقني الحديث الذي صاحبه مزيد من الثروة, والاستهلاك, والتعليم, والاتصال, والانتقال: تداخلت الشعوب, وتبادلت كثيراً من المعتقدات, والأفكار, والقيم, والعادات, والأنماط السلوكية, فخفَّت مع هذا الوضع الحضاري المنفتح مشاعر النفرة من الكفار, حتى أصبح غالب المسلمين لا يرون بأساً بالسفر للبلاد الأجنبية لغير مصلحة شرعية معتبرة, حتى إن بعضهم ينصُّ صراحة على ضرورة ابتعاث الفتيات للخارج حتى مع وجود الكفاية بالداخل بحجة اكتساب الخبرة العريقة من الجامعات الأجنبية المتقدمة, كل هذا رغم مناشدة بعض المؤتمرات التربوية, وتوصية المجمع الفقهي بجدة عام 1408هـ, التي تنص على ضرورة وجود "رقابة إسلامية صارمة على الأنشطة السياحية والابتعاث إلى الخارج حتى لا تتسبب في هدم مقومات الشخصية الإسلامية وأخلاقها", ورغم الإفتاء بالمنع من بعض الفضلاء المعاصرين, ووضوح القواعد الفقهية التي تتعارض صراحة مع مثل هذا التَّوجُّه الموغل في الانفلات العقدي والأخلاقي في سبيل معارف لا ترقى بحال إلى درجة الوجوب على الإناث, فتهدر من أجلها كرامتهن وأخلاقهن؛ فإن بعض القواعد الفقهية تنص على أن: "الضرر لا يُزال بمثله", وأن: "الواجب لا يُترك لسنة", وأن: "الفرض أفضل من النفل", وأما القول بالضرورة, فإن الضرورة تُقدَّر بقدرها, ولها ضوابطها, فقد حدَّها بعض العلماء المعاصرين للرجال في أضيق الحدود, وللتخصصات النادرة, فلا يصح -والنظرة الشرعية هذه- أن تسافر الفتيات المسلمات إلى بلاد المشركين لتلقي العلم, بدعوى التطور والانفتاح, فإن "الانفتاح على العالم شيء, وضياع الشخصية القومية شيء آخر".

السبب الثاني: ضرورة حصول قدر من التأثير السلبي على شخصية الفتاة المبتعثة في البيئة الكافرة, ابتداءً من وقوع بعضهن في تبعية الانتماء العقدي للمعسكر الغربي, بكل ما يحمله هذا الانتماء من معاني الارتداد, والكفر الغليظ, وانتهاء ببلوغ بعضهن درجة الاستمراء لمظاهر الانحرافات العقدية والخلقية المختلفة, وبينهما كثير من مراتب الانحرافات السلوكية, والمعاناة الاجتماعية, وتعددية الانتماء الفكري والوجداني, فلا يُستغرب حصول شيء من هذا في سلوك وأخلاق بعض الفتيات إذا عُرف أن الثقافة سلوك مكتسب قابل للانتقال, خاصة وأن السمات الشخصية الإنسانية أكثر السمات تأثُّراً بالبيئة الاجتماعية, فإذا اجتمع كل ذلك في دار غربة وعزوبة: فإن الفتيات يصبحن أكثر مطاوعة واستهواء من الرجال -سلوكياً وعقدياً- لكون مزاجهن أكثر عصبية, والمراكز العصبية العاطفية عندهن أكثر تهيُّجاً, إضافة إلى العملية المتدرجة التي تحصل عادة للمنخرط في المجتمع الجديد, من حيث الصدمة الثقافية التي يعانيها, ثم التدرج معها شيئاً فشيئاً نحو الاندماج والمسايرة, فيحصل من مجموع هذه الظروف الاجتماعية والفطرية كثير من الانحرافات العقدية والخلقية عند بعض الفتيات المبتعثات, ولعل أقل ما يمكن أن يحصل منهن: المشاركة في بهجة أعياد المشركين التي نصَّ الفقهاء على المنع منها, والتعوُّد على نمط الحياة الغربية, فالتأثير وإن قلَّ لا بد حاصل, يقول "روجر أسكام" - وهو ممن عاش في القرن السادس عشر الميلادي- معبِّراً عن أهمية البيئة الصالحة للمواطن الإنجليزي: "إني أعتقد أن الذهاب إلى إيطاليا خطر, وأيُّ خطر, إني أعرف رجالاً غادروا انجلترا ممن عُرفوا فيها بالحياة البريئة, والمعرفة الواسعة, ثم عادوا من إيطاليا وقد رغبت نفوسهم عن الاستقامة في الحياة, وانصرفوا عن العلم, ولم يعودوا إلى ما كانوا عليه قبل سفرهم إلى الخارج, وكنت أنا نفسي ذات مرة في إيطاليا, وأحمد الله أني لم أمكث فيها إلا تسعة أيام فقط, ومع ذلك رأيت في هذا الوقت القصير في مدينة واحدة من الإباحية, والمجون, والإثم ما لا أكاد أذكره عن مدينتنا الفاضلة لندن في تسع سنوات", إذا كان هذا تعبير شخص لا تختلف بيئته كثيراً عن البيئة التي يحذِّر منها بني قومه, فماذا يمكن أن يقوله المسلم المعاصر عن أوروبا وأمريكا في أواخر القرن العشرين الميلادي؟.

السبب الثالث: انحراف مناهج العلم الغربية: النظرية منها والتطبيقية؛ حيث قامت هذه المناهج على مبادئ وتصورات وعقائد خاصة بأهلها, لا يمكن إغفالها, أو تجاهلها تحت وطأة بهرج الإنتاج المادي الكبير الذي حازه العالم الغربي, فمن "غير المقبول اليوم الاعتقاد بأن العلم والتكنولوجيا أنشطة متحررة من القيم أو محايدة, ولكنها -في الحقيقة- أنشطة تُمارس من خلال سياق ثقافي أو اجتماعي له ضغوطه, ومتناقضاته السياسية والاقتصادية", فالحديث عن حيادية العلوم الغربية وموضوعيتها لا سند له من الحقيقة والواقع؛ فإن لأهل هذه العلوم منطلقاتهم, وتصوراتهم, وغاياتهم المتغلغلة والمتشعِّبة في كل جوانب معارفهم وعلومهم, فإذا نجت الفتاة المسلمة المبتعثة من الانحراف العقدي والسلوكي في بلاد الكفار, فأنَّى لها ان تنجو من الانحراف الفكري المبعثر في مناهجهم العلمية, وأساليب عرضهم الماكرة؟, ولعل هذا السبب الذي دفع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمنع الغزاة إذا هم فتحوا البلاد أن يعلموا أولادهم الصغار كتب النصارى؛ بل إن من علماء الإسلام من منع تعليم الصبيان العلوم الطبيعية في مكاتب النصارى خوفاً عليهم من الضلال, ومع ذلك فقد وقع ما أخبر به رسول الله r من ميل الأمة في آخر الزمان إلى كتب غيرها, وزهدها في كتاب الله تعالى, فلا يخفى على المطلع الاغتراب الذي يكتنف كثيراً من النظم التربوية العربية المعاصرة, في محتواها, وطرق تدريسها, ومناهجها ونحو ذلك, حتى تكاد تختفي بالكامل معالم الأصالة التربوية فيها.

السبب الرابع: إخفاق الابتعاث للبلاد الأجنبية في النهوض بالأمة, وإخراجها من أزمتها الحضارية المعاصرة, رغم ما بُذل فيه من الجهود الكبيرة لإنجاحه, فإن مدخلاته الاقتصادية لا تساوي شيئاً يُذكر من مخرجاته العلمية والمعرفية المتوقعة للنهوض بالأمة, فقد أدرك المراقبون في المجتمع المسلم بعد زمن طويل: أن التقنية لا تُستورد من الخارج, وأن الدول الأجنبية لا تُعطي المبتعثين المسلمين الأسرار العلمية التي تمكِّن بلادهم من الاستقلال والازدهار الاقتصادي, وأن الابتعاث في حد ذاته كان مطلباً غربياً, وأداة من أدوات تغريب الشباب المسلم وإضلاله.

ثم إن الابتعاث دليل على قصور الأنظمة التعليمية الوطنية, وعدم كفاءتها لإعداد رجالها, ومما يشير إلى ذلك بوضوح أن نسبة الطلاب العرب الذين يحصلون على شهاداتهم في الدراسات العليا خارج دولهم بلغت عام 1992م (52%), هذا من جهة, ومن جهة أخرى فإن الابتعاث من أعظم أسباب هجرة الأدمغة العربية إلى الدول الأجنبية؛ فالعلاقة موجبة بين حجم الابتعاث للدراسات العليا, وبين حجم هجرة الكفاءات العلمية إلى الخارج؛ فإن نسبة قد تصل في بعض الدول العربية إلى (90%) من طلابها المبتعثين لا يعودون إليها, بل يرتبطون بالدول الأجنبية المتقدمة, وهذا ما يبرر انخفاض نسبة العلماء المتخصصين الذين يعيشون في الدول النامية إلى (10%) فقط, في مقابل تكدسهم في الدول المتقدمة بنسبة (90%).

ويكفي الابتعاث الأجنبي عاراً أن كان وراء إبراز جمع من الرجال والنساء من دعاة تحرير المرأة في الوطن الإسلامي, ممن كانت لهم أدوار خطيرة, لا تزال الأمة حتى اليوم تعيش آثارها الأخلاقية والاجتماعية المدمِّرة, يقول الأستاذ محمد الصباغ: "إن الابتعاث إلى ديار الغرب ظاهرة رافقت تخلف المسلمين وتقدم الكفار في مجال المادة, والعلوم التجريبية, وأن الابتعاث شجعته أيد أثيمة, استغلت دوافعه السليمة البنَّاءة, وأصرت على أن يستمر حتى بعد مرور ما يزيد على قرن ونصف من الزمان؛ لأنها رأت آثاره الخطيرة التي تفتك بالأمة وكيانها وكرامتها".

إن سبباً واحداً من هذه الأسباب الأربعة كاف لإقناع طالب الحق بخطأ ابتعاث الفتيات المسلمات إلى البلاد الأجنبية, حتى وإن كان ذلك بوجود محرم معها؛ فإن دور المحرم محدود, لا يتجاوز إباحة السفر للمرأة, وربما جنَّبها الخلوة الممنوعة, وقدم لها شيئاً من الخدمات التي لا ترقى لحجم خطر الابتعاث العام والخاص, ثم إنَّ مخالفة المسلمين للشارع الحكيم لن تثمر إلا مزيداً من الضياع والتخلف, فإن الكون بما فيه من مكنونات المعارف, ومدَّخرات الكنوز كلها لله تعالى لا تُنال بمعصيته, ومخالفة أمره, وإنما تُنال بفضله وبموافقة نهجه, فحين كانت الأمة الإسلامية تعيش دينها وأخلاقها, متقيدة بثوابتها: كان طلاب العلم يرتحلون إليها من أوروبا؛ لينهلوا من العلم, ثم يعودوا إلى بلادهم, فقد كانت جاذبية علوم المسلمين مغرية إلى درجة أنها جعلت السياحة والسفر تتوجه إلى بلاد المسلمين, ثم لما فرطوا في أخذ دينهم بقوة, ونسوا حظاً مما ذُكروا به, وطال عليهم الأمد: أخفقوا في علوم الحياة, وتخلفوا عن ركب الحضارة, فعادوا يتكفَّفون من كانوا بالأمس تلاميذ لهم, فبعد "أن كان الغرب مُستعيراً في القرون الوسطى: أصبح معيراً في العصر الحديث, وراح يُعير للعالم الإسلامي ما نسيَ هذا الأخير منذ عهد بعيد أنه كان ممن صنعه, ونشأ على أرضه".