44ـ القدرة على البيان عند الفتاة

تتفاوت القدرة على البيان بين الأفراد عموماً ذكورهم وإناثهم بدءاً بالأبكم العاجز عن الإبانة بالكلية, وانتهاء بالسَّاحر ببيانه, المتقن للفظه, وبينهما مراتب من عيوب النطق, وعسْر الكلام يتفاوت فيها الناس: كالسرعة أو البطء, والتًّقطيع, والحدَّة, والفخامة, والتَّحشْرج, والتردد, واللثغة, والتهتهة والتعتعة ونحوها من عيوب البيان التي يتفاوت فيها الأفراد المتوسطون بين مُكثر ومُقل, وغالباً ما ترجع هذه الإعاقة البيانية إلى مشكلات واضطرابات نفسية وانفعالية, أو إلى مشكلات عضوية وعصبية, ولا شك أن السلامة من العيوب مهمة للاتصال الإنساني؛ فإن الكلام أهم جزء في الممارسات اللغوية عند الإنسان, فالناس يستخدمون الكلام أكثر بكثير من الكتابة, فهم بصورة دائمة يتكلمون أكثر مما يكتبون, فالكلام هو الشكل الرئيس للاتصال اللغوي عند الإنسان, فالسلامة من عيوب الكلام ضرورة لتحقيق سلامة الاتصال بين الناس.

ورغم أن الإناث في العموم أقل عرضة للإصابة بهذه العيوب البيانية من الذكور؛ لكونهن عند البلوغ يتفوَّقن عليهم -بالفطرة- في الطَّلاقة اللفظية, إلا أن التي تُصاب منهن بهذا الداء تعاني معاناة نفسية واجتماعية شديدة, قد تسوقها للانزواء, وتحاشي اللقاء الاجتماعي, لا سيما إذا أصيبت به الفتاة بعد سن السابعة, فقد يستمر معها إلى سن الشباب فيشكِّل لها إعاقة نفسية مؤلمة, وعلاج ذلك يكون بضده من ضرورة التشجيع, وتهيئة أسباب الاستقرار النفسي والعاطفي من خلال عقيدة القضاء والقدر, ومحاولة علاج القصور العضوي إن وُجد, بالإضافة إلى التدريب العلاجي على تحسين النُّطق من خلال التمرينات الخاصة بذلك.

والقدرة على البيان عند الإناث لا ترتبط بالناحية الخطابية العامة؛ لكون الخطابة في العادة عملاً رجولياً, إلا أنهن قد يتفوَّقن أحياناً على الذكور في الحصيلة اللغوية, والقدرة البيانية, وربما وصل بعضهن إلى الذروة من ذلك لغوياً وبيانياً, بحيث تجمع إحداهن زمام البيان من: القدرة على الإبانة بطلاقة, ووضوح المعاني, وسلامة اللفظ من الاعوجاج, مع وفرة المفردات اللغوية, حتى تصبح أعجوبة الدهر, كما هو حال السيدة عائشة رضي الله عنها, فقد أجمع كل من لقيها على فصاحتها, وتملُّكها زمام البيان من كل جوانبه, حتى قال عنها موسى بن طلحة رحمه الله: "ما رأيت أحداً قطُّ كان أفصح من عائشة", وقد شاركتها في شيء من هذا التفوق البياني السيدة أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها الملقبة بخطيبة النساء, فقد شهد لها بذلك رسول الله r بعد أن سمع مقالتها, وطلاقة عبارتها, وشمول سؤالها, حيث قال لأصحابه -فيما رُوي عنه- : "هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا: يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا...".

ولم تنقطع هذه البراعة النسائية بزمن الصحابة؛ بل سجل التاريخ الإسلامي لبعضهن مشاهد ومواقف مشابهة, من جودة الكلام, وحسن البيان, كموقف الإمام تقي الدين ابن تيمية من حسن سؤالات أم زينب فاطمة بنت عباس (ت 714هـ), وسرعة فهمها, وكثرة مسائلها, حتى إنه كان يستعد لها ويتهيَّأ لمسائلها, وأبلغ من هذا ما ذكره إبراهيم بن السِّندي عن جارية كانت تأتيه في حاجة أهلها, حيث قال معبراً عن حرجه من تفوقها البياني: "فأجمع نفسي لها, وأطرد الخواطر عن فكري, وأحضر ذهني جهدي, خوفاً من أن تُورد عليَّ ما لا أفهمه, لبعد غورها, واقتدارها على أن تُجري على لسانها ما في قلبها", يقول ابن جزي عن هذه الحقيقة اللغوية البيانية في عالم النساء: "إن النساء مع قصور عقولهن, وقلَّة إدراكهن في غالب الأمر: قد يصدر من بعضهن من بلاغة الخطاب, وبراعة الجواب, ودلائل النبل, وشواهد العقل: ما يستغرب أمره, ويُخلَّد في الصحائف ذكره", وما زال شيء من هذا التفوق البياني موجوداً في بعض فتيات هذا العصر.

إن مثل هذه القدرات الفائقة المبدعة يمكن أن تكون ثمار التربية العقلية الصالحة الجادة في المجتمع المسلم المعاصر, ولن تعدم الأمة -ما دامت قائمة على النهج التربوي الحق- أن تخرج من فتياتها مثيلات هؤلاء الفاضلات أو نحوهن, ممن تفتخر بهن الأمة, وتزدهر بمثيلاتهن الثقافة, ويصلح على أيديهن النشء.