تصف بعض كتب التراجم مجموعة من النساء الفاضلات بالقدرة على الكتابة والتأليف, والاشتغال بضبط الكتب ومقابلة النسخ, وربما نسبوا إلى بعضهن كتباً بعينها, حتى إن إحداهن وُصفت بالإكثار من التأليف, إلى درجة أن بعض المعاصرين، من فرط حماسه كاد يجعلهن في مصافِّ الرجال في مجال التأليف والتدوين، بل إن إحداهن تزعم أن لبعض النساء مؤلفات تحاكي أعظم العلماء, وتعارض فحول الشعراء!! وعند مراجعة مصادر الكتب ومظانِّها في المكتبات وعبر المخطوطات لا يكاد يجد الباحث من هذه الكتب المشار إليها شيئاً, إلا أن يكون شذوذاً لا يُلتفت إليه، بل وحتى بعض الكتب التي اهتمت بجمع أسماء المؤلَّفات المفقودة من التراث: لا يُذكر للنساء فيها شيء, وكأن القلم حكرٌ على الرجال وحدهم، حتى إن الموضوعات التي قد تكون خاصة بالنساء في الغالب: كأحكام الحيض، وفن الطبخ، وأخبار النساء، وبعض الموضوعات التي تحمل شيئاً من المجون، والتي تُنسب عادة إلى الإناث، كالطرب والغناء: لا يكاد يجد المنقِّب البارع للنساء فيها تأليفاً يُذكر، حتى إن البعض -لفرط إخفاقهن في التأليف- اتهم المجتمع الإسلامي بكبت طاقاتهن العلمية ظلماً لهن، متناسين أن براعة المرأة العربية المسلمة انحصرت غالباً في الحفظ والتَّحديث بالأخبار لميل طبعها للسماع والكلام دون الكتابة التي تحتاج إلى نوع من التفرغ والهدوء اللذين لا يتحققان للمرأة غالباً.
وقد كشفت دراسة مغربية شاملة، جمعت كمَّاً هائلاً من أسماء المخطوطات والرسائل والكتب في بلاد المغرب، فلم تنسب علماً إلا إلى (19) امرأة فقط، ذُكر غالبهن عرضاً، وما نسبت الدراسة إنتاجاً علمياً بعينه إلا إلى ثلاث منهن فقط، إحداهن نقلت رواية لكتاب صحيح البخاري، وأخرى روت كتاب الشفا في السيرة النبوية، والثالثة كتبت قصيدة في مدح النبي r .
وأما النساء اللاتي تركن بالفعل تراثاً مكتوباً؛ فمع كونه قليلاً فإن غالبه مفقود، مثل ما ينسب من التآليف إلى فاطمة بنت أحمد الفضلي الزبيرية (ت1247هـ) فإن غالب كتبها اندثرت وفُقدت، ولعل ذلك يرجع في العموم إلى عدم وجود تلاميذ يحملون عنهن العلم المكتوب، كما حملوا عن كثير منهن العلم المحفوظ، خاصة وهم يجدون في تآليف الرجال من جهابذة العلم والفتوى غُنْية ووفرة عن تآليف النساء، كما أن علومهن المكتوبة -كما يظهر- لا تحمل طابع التًّفرُّد والإبداع اللذين يفرضان على الأمة -بطريق غير مباشرة- رعايتها وحفظها، والعمل على تحقيقها ونشرها. وقد عبَّر الفيلسوف الألماني شوبنهور عن هذه القضية العلمية بعبارة غليظة فيها شيء من التحامل والتعميم فقال: "إذا استعرضنا تاريخ النساء المثقفات لما وجدنا منهن واحدة قد أبدعت في تاريخ الفنون لوحة فنية، أو قطعة موسيقية، أو قصيدة شعرية واحدة ذات أصالة وإبداع، أو قدمت للعالم أية قيمة خالدة في أي موضوع"، ولعل مضمون عبارته ينطبق على المرأة الأوروبية أكثر بكثير من انطباقه على المرأة المسلمة.
والعجيب في أمر الإناث المثقفات من المعاصرات: أن إخفاقهن في مجال الإنشاء والتدوين لا يكاد ينفك عنهن، رغم الانفتاح العلمي الكبير، حيث يفوق عدد الطالبات المتعلمات أحياناً في التعليم العام والعالي عدد الطلاب في بعض البلاد، ورغم إسهاماتهن العلمية والثقافية من خلال الأطروحات الجامعية، وتشجيعهن بكل قوة على الكتابة والتأليف, فإن إنتاجهن العلمي مقابلة بالذكور في دولة كالمملكة العربية السعودية لمدة (25) سنة تقريباً يتراوح ما بين (21.2%) إلى (22.8%), وعلى مستوى كلية الشريعة بجامعة أم القرى, ولمدة ثلاثين عاماً فإن نسبتهن في حدود (14.4%)، وفي الجمهورية السورية لا يتجاوز (21%), وفي دراسة مسحية للبحوث والدراسات التربوية في البلاد العربية خلال عشر سنوات لم تتجاوز نسبة الإناث(19%) مقابلة بنسبة الذكور.
وأما في ميدان كتابة الروايات والقصص ونحوها فإن تخلُّف أعداد الروائيات مقابلة بالروائيين أمر ملحوظ؛ ففي موسوعة كبيرة ضمَّت أسماء الروائيين العرب كانت نسبة الإناث فيها لا تتجاوز (11.92%) فقط, رغم أن الكتابة في مجال الرواية والقصة تبقى أقلَّ جهداً من الميادين الفكرية الأخرى، التي تتطلب مزيداً من المعاناة العقلية والنفسية، ولهذا يُلاحظ أن بعض النساء الغربيات المكثرات من الكتابة يملن إلى القصة والرواية، حتى سُجِّل لإحداهن (160) رواية قصصية, وكانت أخرى تعيش وتنفق من نتاج قلمها.
وأما في جانب التأليف العام فإن الأسماء النسائية لا تكاد تُذكر من بين مئات المؤلفين من الذكور، إلا أن يكون في مجال الطبخ الحديث وجانب التدبير المنزلي.
ومن المذهل أن نسبة حضورهن في كتاب "معجم المؤلفين" الذي حوى نحواً من (18615) مؤلِّفاً وكاتباً من المتقدمين والمعاصرين لا تكاد تزيد عن (0.2%) فقط, وكأن الكتابة : سلوك ذكوري، وصفة من صفات الرجل لا علاقة للإناث بها في الواقع ولا في التاريخ, حتى إن إحداهن إذا تفوقت عقلياً نُسبت إلى عالم الرجال فيقال عنها : "رَجُلة الرأي" .
ومن أعجب ما كشفته إحدى الدراسات العربية الحديثة عام 1996م عن إخفاق المرأة في ميدان التأليف, تلك الدراسة التي شملت دراسة خمسين امرأة عبقرية من العالم العربي, فاتضح أن المؤلفات منهن (28) امرأة فقط، ومجموعة مؤلفاتهن لا تتجاوز (166) مؤلفاً, بمتوسط ستة مؤلفات فقط للعبقرية الواحدة، فإذا كانت العبقرية من النساء تستعصي عليها الكتابة إلى هذا الحد، فماذا يكون حال غيرهن من النساء؟
ومع كلِّ ما تقدم من ضعف إنتاج الإناث الفكري في مقابل إنتاج الرجال: فإن إنتاجهن الحديث يُعتبر متفوقاً إذا ما قُوبل بإنتاجهن في القديم, وهذا واضح في الرسائل والأطروحات الجامعية، والكتابات الصحفية ونحوها, والسبب في ذلك لا يرجع إلى كون نساء هذا العصر أعلم وأقدر على التأليف من النساء في السابق, فإن التفوق الذي وصل إليه كثير من النساء المسلمات في السابق لا يكاد يضاهيه نساء هذا الزمان، وإنما يرجع السبب -كما يظهر- إلى طبيعة العصر الحديث الذي ظهرت فيه الكتب, وحُقِّقت فيه المخطوطات، وتفنَّن المهندسون في خدمات الحاسوب، حتى جمع العلوم، ويسَّر الوصول إليها, وساعد على الكتابة والتأليف, حتى تمكَّن بعض الأطفال من الكتابة والتأليف، فضلاً عن الكبار، فلم يعد غريباً أن يكتب الشخص الذي لا يُعرف بالعلم، ولم يخطر بباله أنه يكتب في يوم من الأيام، ولعل هذا ما ألمح إليه رسول الله r في آخر الزمان من ظهور القلم، الذي يشير إلى انتشار الكتابة.
وقد شاركت المرأة المعاصرة في هذا الانفتاح الثقافي, وأخذت بنصيبها منه اطلاعاً وكتابة, حتى ظهر تفوقها في الكتابة على النساء المتقدمات في الأزمنة الإسلامية السابقة، ولعل هذا مما أشار إليه الرسول r، وذكره معاذ بن جبل رضي الله عنه من انتشار العلم في آخر الزمان حتى يأخذه جميع فئات المجتمع، من الرجال والنساء والأطفال والعبيد, بل وحتى المنافقين ينالهم نصيبهم منه، ولكن الذي يفقده الناس في الغالب -مع كل هذا الانتشار العلمي- هو الفقه، بمعنى الفهم والبصيرة في الدين، فليس كلُّ حافظ فقيهاً فاهماً لما ينقل، وقد أشار النبي r إلى ظهور الجهل في آخر الزمان، وفشوِّه بين الناس, مع ما أشار إليه من ظهور القلم فلا يمنع أن يرافق انتشار العلم المكتوب صور من قصور الفهم، وضعف الإدراك.